فجوة معرفية في الإعلام التونسي

الجمعة 2015/12/18

من الطبيعي أن يترافق التغيير السياسي في تونس مع ثورة إعلامية مصاحبة لإصلاح المشهد، وهو ما تجسد في ولادة العديد من وسائل الإعلام المرئية والسمعية والمكتوبة، غير أن الفوضى باتت سيدة الموقف، بعد خمس سنوات من إسقاط نظام بن علي.

قبل أيام استرعى انتباهي انتفاضة الوسط الإعلامي التونسي على وقع قرار الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري “الهايكا” إيقاف بث برنامجي “لاباس” و”لمن يجرؤ فقط” اللذين يبثان على قناة الحوار التونسي لمدة شهر لأنهما لم يحترما المشاهد.

أغلب الجمهور التونسي، ولا أعني هنا الفئة النخبوية التي تتابع البرنامجين، يعلم أنهما برنامجان مخلان بالأداب العامة، فلا تستطيع أي عائلة في تونس مشاهدتهما مجتمعة على شاشة واحدة لكثرة ما فيهما من ثلب وتجاوز للذوق العام. فمعظم من استطلعت أراؤهم منذ فترة حولهما ينتقدون مقدمي البرنامجين لمستواهما الأخلاقي المستفز والمتدني ومواصلتهما استغباء التونسيين.

القرار رغم أنه جاء على خلفية ما تضمنته آخر حلقتين من هذين البرنامجين، من مناوشات وشتائم واتهامات متبادلة ونشوب شجار بين الضيوف وصل إلى حد محاولة تبادل العنف الجسدي، وتمجيد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي وفسح المجال للدعاية إلى عودته، إلا أنه لن يكون رادعا لأن المسألة مرتبطة أساسا بالبعد الأخلاقي والثقافي والمعرفي للقائمين على إعداد ذلك النوع من البرامج.

وفي كل الأحوال، هناك واقعية معرفية ما زلنا كعرب نعاني منها في ثلاثة مجالات جوهرية هي العلم والعقل والواقع، إذ لا زلنا حتى يومنا هذا لا نستوعب بشكل كامل أبعاد النظريات العلمية، وهو ما تسبب في فجوة معرفية عميقة انعكست بشكل لافت على الإعلام العربي عموما وقد يكون الإعلام التونسي أحد أبرز المتضررين منها.

السقوط في هذا الفخ سواء كان عن حسن نية أو بشكل متعمد من صناع الإعلام أو لوبيات المال أدى إلى إسفاف في المشهد الإعلامي غابت معه روح القيم، فلم نعد نرى برامج أو أطروحات تهم المشاهد أو القارئ أو المستمع. فالكل يلهث وراء الشهرة والمجد والمال دون وعي بأنهم يحاولون قيادة المجتمع كالقطيع غير مدركين لما يحصل.

الكل يعلم أن للإعلام دورا مهما محوريا في شرح القضايا وطرحها على الرأي العام من أجل تهيئته نفسيا لتقبل التوجهات العامة. ولا يمكن للإعلام أن يمارس هذا الدور إلا إذا حقق قدرا كافيا من الحرية والتحرر من القيود التي قد تمارس عليه من أي جهة كانت، لكن ليس بهذه الطريقة.

صحيح أن هناك انفتاحا وابتعادا عن الصورة النمطية القديمة، لكن ما يحدث في الإعلام التونسي كارثة حقيقية. فمنذ سنوات تعيش تونس مخاضا إعلاميا عسيرا، حيث ظل التقييم للميدان الإعلامي يراوح بين السيء فالحزبي المتواطئ وصولا إلى لوبيات المال المتسببة الأولى في هذه الفجوة المعرفية.

وبما أن الإعلام ميدان شاسع ومتحول عالميا وبما أنه يعيش على وقع تغييرات جذرية مردها التقدم التكنولوجي، فإن مشكلة الإعلام التونسي مزدوجة ومحاولة التفرقة بين الأسباب الموضوعية والأسباب الذاتية لفشل إصلاح الإعلام في تونس، أمر معقد ولن يحل قريبا.
18