عندما يصطدم واقع التشغيل في تونس بحتمية الإصلاح

لا أحد في تونس يختلف على أن المقاهي والمطاعم ومحلات الحلويات جزء من الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وحجر أساس في ثقافة التونسي اليومية، رغم الضغوط المعيشية، لكن مع اتخاذ الدولة خطوات عملية عبر سياسة التقشف لتعبئة الموارد بعيدا عن الديون الخارجية، باتت هذه الأعمال تواجه تحديات يصطدم من خلالها واقع التشغيل بحتمية رفع الدعم عن المواد الأساسية وزيادة الضرائب.
يحيلنا هذا إلى سبب إقدام الحكومة على هذه المغامرة دون دراسة كل السيناريوهات لتجنب الوقوع في فخ تغذية البطالة فقط من أجل معالجة الخلل في توازناتها المالية على حساب الأنشطة التجارية المهمة لسوق العمل، والتي أفلس العديد منها على مدار خمس سنوات.
منذ فترة طويلة تواجه تونس تحدي إصلاح نظام الدعم. وبينما تجنبت ضغوط صندوق النقد الدولي بشروطه المجحفة لكسر طوق على بند في الميزانية ظل ممنوعا على أيّ حكومة الاقتراب منه للحفاظ على السلم الاجتماعي رغم أنه لا يشكل سوى 12 في المئة من حجم الإنفاق السنوي، اخترقت السلطة في عهد الرئيس قيس سعيد هذا الخط الأحمر، وإن كانت خطوة مقنعة، لتحقيق مكسبين أساسيين: الأول توفير الموارد للخزينة العامة، والثاني شعار قطع الطريق أمام تسرب مخصصات الدعم لغير مستحقيها.
كثيرا ما تنطوي عملية خفض الدعم أو إزالته تدريجيا على أنها من الإيجابيات، لأن الدولة تنظر إليه على أنه عبء على الميزانية وتشويه للسوق. ومع ذلك، فإن هذا النهج، ورغم كونه منطقيا من منظور الاقتصاد الكلي، غالبا ما يتجاهل الواقع السلبي على الأرض، لتأثيره العكسي على الأعمال التي تعتمد المواد الأساسية، كالسكر والدقيق والزيوت والبن والحليب واللحوم وغيرها من السلع. وأيضا يعمل على تغذية السوق السوداء. فالأمر لا يختلف مع الضرائب.
حتى نفهم السياق المهم للدعم علينا معرفه أنه ارتكز على مبدأ التوفيق بين البعدين الاقتصادي والاجتماعي، وكان الصندوق العام للتعويض بمثابة الآلية المعتمدة لتنفيذ سياسة استطاعت نوعا ما الحفاظ على استقرار القدرة الشرائية للتونسيين. ورغم الأزمات المالية التي مرت بها البلاد، قامت هذه الآلية بحماية الاقتصاد من تقلبات أسعار السلع والخدمات في الأسواق الخارجية، وفي الوقت نفسه غذّت قطاعات لا يفترض أنها مشمولة بهذه الأموال، وباتت بالنسبة إليها حقا مكتسبا للبقاء على قيد الحياة، وجني المزيد من الإيرادات والأرباح على حساب المستهلكين مع الأخذ في الاعتبار طبعا تكاليف التشغيل والضرائب المدفوعة للدولة.
الوضع المتسم بالتوتر نتيجة رفع الدعم وزيادة الضرائب والذي يهدد أنشطة مهمة كالمقاهي والمطاعم ومحلات الحلويات والتي تبدو هشة منذ الجائحة، يستحق أن تنظر له الحكومة من نوافذ أخرى أكثر عقلانية
هذه السياسة تمر اليوم بنقطة تحول حاسمة، فهي مشتتة بين الضرورات والواقع الاقتصادي والاجتماعي، وتسلط الضوء على معضلة معقدة تتمثل في كيفية إصلاح نظام الدعم الحيوي مع الحفاظ على نشاط الأعمال الصغيرة كالمقاهي والمطاعم ومحلات الحلويات، بالنظر إلى مساهمتها الكبيرة في سوق العمل. هذا الوضع المتسم بالتوتر يهدد هذه الأنشطة التي تبدو هشة منذ الجائحة، ثم استيراد التضخم بعد ذلك وتعثر خطوط الإمداد يستحق أن تنظر له الحكومة من نوافذ أخرى أكثر عقلانية.
إذا نظرنا إلى طبيعة عمل هذه الأنشطة، فإنها من بين المحركات المهمة للاقتصاد التونسي، كما هو الحال في دول أخرى، لأنها تقوم بدور تحفيزي للاستهلاك، تماما مثل المجمعات التجارية الكبرى أو السوبرماركت أو المولات، ولذا فإن تهديد نموها الآن مع ما توفره من وظائف للآلاف من العمال الذين يعيلون أسرهم سيكون من غير الصواب في ظل الوضع الحالي الضاغط.
إلغاء الدعم وزيادة الضرائب يعني زيادة كبيرة في أسعار شراء المكونات، ويضع هذه القطاعات في موقف صعب، حيث يتعين عليها إما استيعاب هذه التكاليف الإضافية أو تمريرها إلى المستهلك، الأمر الذي يمكن أن يقلل الطلب في مواجهة التكاليف المتزايدة، إذ يخاطر أصحاب المشاريع بتسريح عمالتهم أو حتى إغلاق أبواب أعمالهم. وهذا من شأنه أن يخلف تأثير الدومينو على تشغيل العمالة، وخاصة بالنسبة إلى الشباب والعمال غير المهرة، الذين يمثلون جزءا كبيرا من القوى العاملة فيها.
الدعم والضرائب هما موضوعان معقدان يتطلبان مقاربة متوازنة بين متطلبات الدولة والواقع المعيش. وفي حين أن الإصلاحات أمر لا مفر منه لضمان الجدوى الاقتصادية، إلا أنه من المهم تنفيذها بعناية لتقليل الآثار السلبية على القطاعات المعرضة للصدمات أكثر من غيرها. ومن خلال اعتماد إستراتيجية تدريجية وتعزيز شبكات الأمان والاستثمار في المبادرات الداعمة للنمو، يمكن لتونس أن تأمل في اجتياز هذه الفترة الانتقالية الصعبة بنجاح.
مسألة توفير آليات دعم مباشرة للمشاريع الصغيرة، مثل تقديم قروض ميسّرة أو منح لتغطية الزيادة في التكاليف من المهم أن تفهم الحكومة جدواها. كما يمكنها وضع حوافز مدروسة مثل تخفيضات ضريبية مؤقتة أو تأجيل الدفع لبعض الوقت، وأيضا التشجيع على استخدام المواد المحلية بدلا من المستوردة التي قد تكون أغلى لتقليل التكاليف المرتبطة بشراء المواد الأساسية مع تحسين كفاءة التشغيل مثل تحسين إدارة المخزون وتقليل الفاقد ويمكن كذلك استكشاف أساليب جديدة للطهي لتقليل استهلاك الطاقة والموارد.
لا يقف الأمر عند ذلك، فالتواصل الشفاف الواضح حول أهداف الإصلاحات والفوائد المتوقعة ضروري لإقناع النقابات والتي عليها أن تعي سببها وكيف سيتم تنفيذها حتى لا “يجوع الذئب ولا يشتكي الراعي.”