عزلة الإنسان المعاصر تتجسّد في لوحات رائية

التشكيل العربي يُعيد صياغة مفهوم العائلة بدفء بارد في الزمن المعاصر.
الجمعة 2021/02/12
اجتماع عائلي صامت يعبّر عن عزلة أفراده (لوحة لعصام درويش)

لا يعتبر موضوع تصوير العائلة، عربيا وعالميا، أمرا جديدا في اللوحات التشكيلية، ولكنه بات اليوم، وبشكل مؤكّد، مفهوما يُعاد تكوينه بصيغ فقدت شيئا فشيئا الكثير من دفئها. وهذا ما قدّمه الفنانان عصام درويش وعبدالحميد فياض بأسلوبين مختلفين، لكن يجمع بينهما اتفاق ضمني يشي بتغيّر جذري لمفهوم العائلة في الزمن المعاصر.

الفنان عصام درويش والفنان عبدالحميد فياض لا ينتميان إلى الجيل الجديد بل إلى الجيل المخضرم، وربما ساهم ذلك في تطوير نظرتهما إلى الحاضر الإنساني وفق تجربة ومُعاينة من ناحية، ومعرفة واضطلاع من ناحية أخرى.

وقد نشر الفنانان على صفحتيهما الفيسبوكية عملين مهمين ومتباعدين زمنيا لأكثر من أربعين سنة. كما يفصل بين العملين اختلاف كبير في الأسلوب وفي النظرة إلى العائلة بمفهومها المُتحوّل. عملان فنيان يسطعان بالصدق والنضج، وقد نشرهما الفنانان مرفقين بنص قصير جدا يُساهم في الكشف عن الفكرة المُحرّكة التي أنتجتهما.

عصام درويش يعبّر عن مفهوم العائلة المعاصرة التي يختبر أفرادها العزلة
عصام درويش يعبّر عن مفهوم العائلة المعاصرة التي يختبر أفرادها العزلة

وهم افتراضي

قبل المضي في الحديث عن العملين، لا بدّ من الوقوف أولا أمام خبر انتشر منذ فترة قصيرة على المواقع الإلكترونية، خبر أتى مفصلا تحت عنوان “تمنى لقاء زوجته بعد وفاتها، فكان له ذلك”.

ويسرد الخبر، وباقتضاب شديد، أن رجلا كوريا فقد زوجته بعد صراعها المرير مع مرض السرطان وكانت أقصى أمنياته رؤيتها ولوّ لمرة أخيرة، حتى للحظات، فكان له ذلك كما كان لباقي أفراد العائلة المتكوّنة من خمسة أبناء، وقفوا مشدوهين أمام “بعث” والدتهم الافتراضي.

وفاة زوجته كانت تجربة مؤلمة عاشها هذا الرجل الكوري الجنوبي كيم جونغ مع أبنائه وذلك لمدة أربع سنوات، لكن تمكنوا بعدها من أن “يلتقوا” بها، وذلك من خلال تقنية الواقع الافتراضي فتحدّثوا معها ورقصوا برفقتها.

وحسب ما يذكر الموقع الذي نشر هذا الخبر المصوّر أن اللقاء تمّ “من خلال فيلم وثائقي تلفزيوني بعنوان ‘قابلتك’، وهو من إنتاج شركة كورية جنوبية هدفت إلى لمّ شمل الأشخاص بأحبائهم الذين فارقوا الحياة وتحقيق رغبة لقائهم بهم لآخر مرة عبر هذه التقنية المتطوّرة جدا”.

ومن الطبيعي جدا أن تواجه هذه التقنية الافتراضية اعتراضات كثيرة على خلفية نفسية وروحية على السواء. فهي أولا، تقنية تكرّس منطق الوهم وليس استحضار الآخر المتوفّى، إنما “اختراعه” بنسخة ممسوخة مهما وصلت دقة التشابه بينها وبين الحقيقة.

ثانيا، تمثّل هذه التقنية تغاضيا سافرا عن قدسية الموت والحياة والفارق الدامغ بينهما، واستخفافها بالروح البعيدة كل البعد عن منتوج افتراضي تمّ بثّه في هيكل وهمي واهم.

عطر الغياب

عبدالحميد فياض يصبغ على عائلته أخضره المتفجّر المعهود، بما يشي بتنافر صميم رغم مثالية المشهد الجماعي
عبدالحميد فياض يصبغ على عائلته أخضره المتفجّر المعهود، بما يشي بتنافر صميم رغم مثالية المشهد الجماعي

لا تتوقّف “ارتدادات” هذه الممارسة الافتراضية عند حد، ومن جملة ما تستطيع أن تفضي إليه، أن تحيلنا إلى لوحتين معاصرتين عربيتين من إنتاج فنانين مختلفين أشدّ الاختلاف، هما عبدالحميد فياض وعصام درويش، اللذان قدّما مشهدين مختلفين، ولكن متقاربين عن مفهوم العائلة المعاصرة التي يختبر أفرادها العزلة اليوم أكثر من أي زمن سابق، ليس فقط بسبب انتشار وباء كوفيد – 19 ولزوم اتباع قواعد التباعد الاجتماعي، ولكن بسبب تغيّر تدريجي في مفهوم الإنسانية.

نشر الفنان التشكيلي عصام درويش منذ ما يقارب السنتين على صفحته الفيسبوكية لوحة “عائلية” الطابع تظهر فيها ثلاث نساء بأعمار مختلفة ويجمع بينهنّ شبه كبير، وهنّ يجلسن بصمت طويل على الشرفة وفي ضوء نهار مغبر كالعديد من لوحات الفنان.

علّق الفنان على هذه اللوحة بهذه الكلمات “لا أملك سوى القليل من أعمالي، و’الانتظار’ لوحة عمرها 40 سنة. وكلما شاهدتها أشمّ رائحة زيت الصنوبر الذي كنت أمزج به الألوان في نهارات العمل الجميلة”.

هذه اللوحة نشتمّ فيها عطرا آخر اليوم. إنه عطر المُعاصرة، إذ هي قريبة جدا من وصف الجلسات العائلية الحالية، هذا إن حصلت، حيث يغرق فيها كل فرد في عالمه الخاص معزولا عن الآخر الجالس بقربه، ولكنه مُطل مثله على جدار يمتد خلف سياج الشرفة المفتوح هو الآخر على أفق من “اللاحضور” المُغمّس برمادية غير منسجمة مع معنى ودفء الضوء الطبيعي.

لوحة عصام درويش المعنونة بـ"الانتظار" تجسّد تقاربا جسديا وهميا بين النسوة الثلاث، بينما الروح في مكان آخر

يحضر في لوحته هذه التقارب الجسدي الوهمي بين النسوة، بينما الروح في مكان آخر تناقضا مع منطق استحضار الغائب من خلال تقنية الواقع الافتراضي التي ذكرناها آنفا.

ويكمن الفرق في اللوحة بكون الأساسي هو الغائب/ الروح الذي بات “انتظاره” عادة، في حين أن في سيناريو التطبيق الافتراضي، الأساسي هو ما حضر من نسخة بديلة وممسوخة لمعنى الروح، إذ هي رداء رديء غير مقنع للجسد.

أما لوحة عبدالحميد فياض فقد نشرها مرفقا إياها بهذه الكلمات “كان لنا صورة.. صورة عائلية.. تشتّتنا وظلت في القلب”، تتحدّث هذه اللوحة عن مفهوم العائلة وإن من زاوية غير تقليدية.

عائلة غرائبية الأبعاد، لأنه من الممكن لنا أن نتخيلها بسهولة، صنيعة التطبيق الافتراضي للواقع الشبيه الذي ذكرناه آنفا. عائلة نافرة ومتنافرة مع بعضها البعض، إلاّ من الشكليات والمظهر المُتمثل بـ”التصميم الإخراجي” المثالي والكلاسيكي لأي صورة عائلية عادية تجمع ما بين الأب والأم في خلفية الصورة والأبناء من أمامهما. صورة/ لوحة اصطبغت بأخضر الفنان المتفجّر والمعهود.

واللافت في هذه اللوحة أن المُشاهد يستطيع أن يتعرّف على الوالد والوالدة، ولكن يحار أمام “الأبناء” الذين بدوا أكبر سنا منهما أو بنفس الفئة العمرية، والأغرب من ذلك أنّ كلا من “الابنين” يحمل ملامح قاتلة ومُقلقة.

عائلة مُعاصرة بامتياز، بمعنى المطلق للعائلة أي كونها ترمز إلى مجتمع، وترمز إلى وطن، وإلى منطقة من العالم، لا بل إلى الكوكب بأكمله. عائلة فياض لا يجمع بين أفرادها اليوم، إلاّ كل ذاك “الغير المعهود” الذي بات مُكرّسا على أنه واقع عائلي بتطلعات مستقبلية مُرعبة.

17