عالم جديد لا يشبه ما سبقه

الأزمة الروسية – الأوكرانية كشفت الستار عن كثير مما كان القادة والحكومات في العالم يحاولون إخفاءه، وعن كثير مما يُحاك في الكواليس.
هذه الأزمة، التي تسلط الضوء عليها وسائل الإعلام وتحتل الصدارة في الأخبار ووسائل التواصل الاجتماعي، لخصت كثيرا مما يحدث هنا وهناك في بقاع الأرض، أفريقيا، الشرق الأوسط، شرق آسيا.
تبادل للاتهامات وكشف ملفات سرية، علاوة على تصريحات مضادة طوال الوقت، تجعلك تنظر إلى أبعد منها، ومحاولة قراءة ما بين السطور.
محاولات يائسة لكل طرف من الدول الإعلان عن “عالم جديد” قائم على بنوده الخاصة وأحكامه وشروطه.
بنظري، لا أحد بريء هنا، ولا قوة خير وشر ضمن القادة والحكومات.
الحرب في صُلبها بين رؤوس الأموال، وحيتان الشركات الكبرى وأهمها “قطاع الطاقة”.
والخاسر الأكبر هم “العامة”، علاوة على حكومات الدول الضعيفة اقتصاديا والمهمشة، التي لم تحاول لملمة خسائرها وإفلاسها بعد آثار كارثة كورونا، ولم تتعاف بعد مما أصابها خلال العامين الماضيين.
هذه الأزمة القديمة الجديدة، الأزمة الأوكرانية – الروسية، قد تكون مؤامرة متفقا عليها بين الحكومات والقادة كما يحلل البعض، لإحلال نظام عالمي جديد لا يشبه ما قبله.
ما يحدث كشف عن دكتاتورية الغرب وهشاشة الديمقراطية التي يتحدث عنها وينادي بها، واسم "الحرية الزائفة" و"الديمقراطية الهشة" التي دمر من خلالها الكثير من البلاد في الشرق الأوسط وأفريقيا
وقد تكون “فخا” لروسيا وقعت فيه وحاكته لها الولايات المتحدة كما يحلل البعض الآخر، فهي تبدو الأقل تضررا مما يحدث، لكنها ليست بعيدة عن الخطر في كل الأحوال، إذا ما تم التصعيد لاحقا وعم الجنون من جديد وقاد إلى حرب عالمية ثالثة رسمية.
وقد تكون الأزمة استبدادا من قبل روسيا، التي تريد أن تكسر شوكة الولايات المتحدة وتعيد برمجة العالم، بخلق توازن أكبر بين القوى العظمى، وعدم السماح لواشنطن بلعب دور الشرطي وإحلال نظرية العالم المقاد من طرف واحد قوي، كما يحلل آخرون.
وما يحدث اليوم، قد يكون السبب في فتح شهية العديد من الدول، كالصين وغيرها، لمحاولة كسر شوكة الولايات المتحدة وفرض هيمنتها مجددا، كل يأخذ موقفا وفق حساباته ومصالحه الخاصة.
وقد تكون الأزمة سببا لتعيد الدول الأوروبية حساباتها وتفكيرها للتخلص من تبعيتها للولايات المتحدة، وتقوية حدودها ونفسها عسكريا.. ومن المرجح أنها ستكون أكثر الأطراف تضررا مما يحدث، خاصة اقتصاديا، بعد أن وقعت بين نارين من جديد.
القارة العجوز، التي دفعت ثمنا باهظا في الحربين العالميتين السابقتين والخارجة من كارثة اقتصادية، تحاول الحفاظ على توازن إنسانيتها وعلمانيتها وقيمها في ظل تصاعد اليمين المتطرف في السنوات الأخيرة، وبعد التحديات التي واجهتها بسبب كورونا.
التحليلات كثيرة، لكن الأكيد أن العالم بعد هذه الأزمة لا يشبه ما سبقه في الكثير من علاقاته وقواه التي تكشف عن هشاشة النظام العالمي وفساده.
هذا النظام الذي كان يُقصد بمؤسساته أن تكون معطلة، وكان يُقصد به أن يكون هشا، فاسدا ولا يعمل. والذي مهما حاولنا إحلال كلمة الحق، وإظهار الحقيقة فيه، إلا أن الغموض يعتري كل ملفاته وقضاياه القديمة منها والحديثة.
لأن هذه الحكومات (القوى العظمى) تحاول جاهدة إخفاء الحقيقة، ولا تقدم جوابا حقيقيا واضحا حيال أي ملف في الواقع.
ووسائل الإعلام اليوم ليست أفضل وسيلة لنأخذ الكلمة الفيصل منها للأسف.
لكن ما أود التركيز عليه هو أننا حين نقرأ بين السطور، نرى أهمية ما يحدث في كشف الكثير من الهراء والمؤامرات الخبيثة التي تضر بمصلحة العامة، وكشف الكثير من الضعف والفساد الإداري الذي يعاني منه العالم أجمع للأسف.
الصراع طويل، ولا أرى نهاية قريبة له، لكنها قادمة.. فلا حرب تدوم ولا نعيم دائم
ما يحدث كشف عن دكتاتورية الغرب وهشاشة الديمقراطية التي يتحدث عنها وينادي بها، واسم “الحرية الزائفة” و”الديمقراطية الهشة” التي دمر من خلالها الكثير من البلاد في الشرق الأوسط وأفريقيا.
وكشف ازدواجية المعايير في إصدار الأحكام والتعامل مع القضايا الإنسانية، وتداعي قيم الديمقراطية والقيم الإنسانية التي قامت عليها أوروبا حين تخلصت من دكتاتورية القيصر والحكم الملكي وحكم الكنيسة.
وكشف هشاشة كل قيم العدالة والمدنية والإنسانية التي تأسس عليها الغرب وضرورة إنهاء المنظومة الحالية والنظام العالمي بمؤسساته وأدواته المعطلة، والسماح بقيام نظام جديد وقيم جديدة تناسب التطور والوعي الجمعي المتطور في العالم.
من الممكن أن نرى في ما يحدث اليوم أيضا صراع قيم وأنظمة بدأت تنهار وتتلف وأصبح من الملح جدا إيجاد بديل قوي وحقيقي لها، فاليوم هناك قتال على أصعدة ومستويات أخرى من أجل حرية حقيقية والتخلص من قيود الوهم والأكاذيب حول “القلة” وعدم توفر مصادر كافية للجميع، واستخدام أساليب الخوف والقمع وبث دعايات ندرة المصادر والموارد للتحكم بشكل أكبر بالأغلبية.
نحن اليوم في وسط معركة كشف الحقيقة والارتقاء بالوعي العام لمستويات أفضل، والعمل جاهدين لتخليص البشرية من التبعية العمياء لأحزاب وحكومات وقادة لم يكونوا سوى سبب في فقر شعوبهم ومعاناتها المستمرة.
الصراع طويل، ولا أرى نهاية قريبة له، لكنها قادمة.. فلا حرب تدوم ولا نعيم دائم.
العالم اليوم بحاجة لإنهاء منظومة قائمة على الاستبداد والتجهيل المتعمد والخوف والعنف، وإحلال قيم جديدة من أفكار الحضارة والتطور والحرية الفكرية والمالية والتمتع بالوفرة للأغلبية وغيرها من القيم الإنسانية التي طالما بنى الإنسان على أساسها حضارة ودولا متطورة كانت قادرة على الصمود أمام التحديات، على عكس إمبراطوريات قامت على الفساد الإداري والدكتاتورية والعنف التي كانت تلقى حتفها، بطريقة أو أخرى، عاجلا أم آجلا.