ضرورات المرونة النقدية لتنفيس الاقتصاد التونسي

لماذا يعتقد صناع القرار النقدي في تونس أن التضخم لا يزال يمثل خطرا وهو ما عكسه إصرارهم على تثبيت الفائدة عند 8 في المئة؟ ألم ينظروا إلى أن التضخم في العالم يأخذ منحى هبوطيا ليس فقط في الاقتصادات الكبرى، ومنها الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وبريطانيا، بل حتى في الدول النامية وخاصة المحيطة بتونس مثل المغرب، رغم أن أسعار الغذاء عادت الى الارتفاع في آخر ثلاثة أشهر.
ما الفائدة من إبقاء سعر الفائدة عن هذه المستوى المرتفع بالنسبة للناس والشركات والتجار والمصانع، حتى أن البورصة المحلية، التي يفترض أن تكون نشطة عكس باقي الأعمال، لم تستفد على مدار أشهر من الخطوة في جذب مستثمرين يقتنصون مثل هذه الفرص في أسواق أخرى أكثر جاذبية.
كان من الأجدى على البنك المركزي خلال اجتماعه الأخير الجمعة الماضي خفض الفائدة ربع نقطة مئوية على أقل تقدير أو نصف نقطة مئوية على الأكثر، ودواليك بشكل تدريجي حتى نهاية 2024، وبالتالي يكون قد وضع خطوة استباقية قد تساعد في تحرير الأنشطة الاقتصادية التي تعاني، وأيضا لإعطاء التونسيين فرصة لالتقاط الأنفاس من الضغوط المعيشية.
على البنك المركزي التفكير منذ هذه اللحظة في كيفية اتباع سياسة نقدية مرنة وغير محبطة وبشكل تدريجي مع دراسة كافة المخاطر المحتملة
آخر مرة خفضت فيها تونس الفائدة كانت في سبتمبر 2020، أي في خضم الأزمة الصحية، بواقع 0.5 في المئة بعد أن تم رفعها في شهر فبراير 2019 إلى أعلى مستوياتها منذ ثلاثة عقود لتبلغ 7.75 في المئة. حينها تعرض المركزي لسيل من الانتقادات كون الخطوة ستعمق شلل الاقتصاد المنهك أصلا من تبعات عشر سنوات من المشاكل.
ما حصل في ذلك الوقت كان كما توقعه الخبراء، فقد ظهرت أعراض النتائج العكسية في طريق السيطرة على التضخم الجامح وغيرها من المؤشرات الأخرى، ولكن اللافت عدم تأثر سعر صرف الدينار أمام سلة العملات الرئيسية في مقدمتها الدولار واليورو، حيث بقي مستقرا نوعا ما قياسا بعملات دول عربية أخرى.
ولأن تبريرات المسؤولين بشأن قرارهم الأخير قد تبدو مقنعة في جوانب معينة، بيد أن التقاعس في تخفيف التشديد النقدي يتمحور في عدم تمعنهم إلى إشارات مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي (البنك المركزي) الذي سيبدأ دورة التسيير النقدي بداية من سبتمبر المقبل على الأرجح. وكما نعلم أن الاقتصاد العالمي مرتبط بالسياسة النقدية الأميركية، فكلما كانت الفائدة في الولايات المتحدة أقل كلما انعكس ذلك على باقي الاقتصادات وتحسن نشاطها.
صحيح أن خطوة المركزي هي اعتراف بصعوبة مهمة كبح انفلات الأرقام الدالة على صحة وتعافي الاقتصاد وأن التحسن الذي تشهده أبرز المؤشرات النقدية والمالية والتجارية يبقى هشا، ولكن من الضروري أيضا معاضدتها بإجراءات عملية وفعالة من الحكومة حتى تتسق وطبيعة المرحلة الراهنة، وأن كل تأخير يؤكد أن السلطات أمامها الكثير لتفعله حتى تخرج الاقتصاد الكلي من نفق أزماته المزمنة.
لقد فوت مجلس البنك المركزي مرة أخرى بث رسائل إيجابية لقطاع الأعمال، الذي يمر بمشاكل كبيرة إذا ما تعلق الأمر بالتكاليف، لأن هذا المجال جزء أساسي في تنشيط الاقتصاد العليل، خاصة مع تواصل المنحى التنازلي في السوق المحلية، حيث استقر المؤشر بنهاية مايو عند 7.2 في المئة نزولا من 9.6 في المئة قبل عام.
0.2
في المئة نسبة النمو الاقتصادي خلال الربع الأول من هذا العام
إن اعتماد هذا الإجراء يدفعنا إلى التساؤل حول ما إذا كان الاقتصاد سيتحمل لفترة أطول تبعات سياسة التشديد النقدي رغم أنه سلاح فعّال لمواجهة الأزمات المفاجئة والتي جاء جزء منها نتيجة عوامل خارجية تفاقم بوضوح مع اندلاع الحرب بين روسيا وأوكرانيا قبل عامين، مع العلم أن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة لم تضف الكثير إلى انعكاسات التوتر في شرق أوروبا.
كل التونسيين باتوا مدركين أن أزمة تضخم الأسعار عالمية، وأن بلدهم ليس بمنأى عن ارتدادات ذلك، وهم في الأمس الحاجة لمشاهدة بعض التحسن في المؤشرات. وبصرف النظر عن دور البنك المركزي كونه صمام أمان اقتصادي ومالي واستهلاكي، لكن يتضح أن صناع القرار السياسي أيضا ليست لديهم الأدوات الكافية لمعالجة الخلل رغم المحاولات الحثيثة على مدار أشهر في تطويق مشكلة باش الشغل الشاغل اليومي للناس.
بالنظر إلى ارتباط الأسعار المرتفعة فوق الحدود المعقولة على الدوام بتراجع النمو الاقتصادي، والذي بلغ خلال الربع الأول من هذا العام 0.2 في المئة فقط، فإن حكومة أحمد الحشاني يقع على عاتقها بذل المزيد من الجهود لخفض معدلات التضخم وليس جعلها مستقرة، باعتبار أن الأمر مهم للحد من مستويات الفقر وتحسين القدرة الشرائية، وأيضا تجنب حدوث احتجاجات على غلاء المعيشة.
ما يؤكد أن ثمة صعوبة في مواجهة هذا التحدي، هو ما رصده البنك الدولي من خمول في الاقتصاد التونسي خلال عام 2023، بعدما تأثر بموجة الجفاف الشديد، وظروف التمويل الضيقة، وأيضا الوتيرة المحدودة للإصلاحات، الأمر الذي جعل معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي للبلاد والذي بلغ 0.4 في المئة، دون مستويات ما قبل الوباء، وهو واحد من أبطأ مستويات التعافي في المنطقة العربية.
على البنك المركزي التفكير منذ هذه اللحظة في كيفية اتباع سياسة نقدية مرنة وغير محبطة وبشكل تدريجي مع دراسة كافة المخاطر المحتملة في اجتماعه المقبل من أجل إطلاق العنان لمحركات النمو المكبلة بسياسة تقليدية عطلت تنفيس الاقتصاد.