صراعات أجنحة الجيش الجزائري لا تؤثر على استعادة دوره داخل السلطة

الجزائر – استعادت مؤسسة الجيش في الجزائر نفوذها وبدأت تسيطر على مفاصل الدولة تدريجيا، بعد سنوات من التحييد والتفكيك. وبالرغم من أن القرارات المتتابعة تنسب إلى رئيس الجمهورية إلا أن بصمة المؤسسة العسكرية في توجيه الشأن العام تبدو جلية من خلال احتلال الواجهة السياسية والدعائية، حيث باتت صورة المؤسسة تزاحم صورة الرئيس عبدالمجيد تبون.
واكتفت القرارات الأخيرة -المتعلقة بالتغييرات المهمة في بعض مفاصل الجيش- ببيانات مقتضبة منسوبة إلى الرئيس تبون، بينما يقول مراقبون إن لمسة الفاعل الحقيقي تبقى خلف الواجهة، وذلك تماشيا مع المقتضيات الدستورية وتقاليد الدولة، مما يؤكد تنامي دور الجيش خلال السنوات الأخيرة في إدارة الشأن العام، خاصة وأن خطاب المؤسسة لم يتوان منذ عام 2018 عن حشر نفسه في مختلف القضايا والملفات السياسية والشؤون الداخلية، على غرار المواعيد الانتخابية والدستور والاحتجاجات والمسائل الدبلوماسية.
وأُعلن في الجزائر عن إطاحة الرئيس تبون بعدد آخر من كبار ضباط المؤسسة العسكرية، على غرار مسؤولي دائرتي الإعلام والتوثيق والصحة العسكرية، كما يتم تداول معلومات بشأن مباشرة تحقيقات مع مدير الاستعلامات الخارجية السابق الجنرال محمد بوزيت، الأمر الذي سيعيد طرح مسألة التوازنات داخل مؤسسة الجيش. لكن عارفين بالشأن الجزائري ينزهون تبون عن تلك القرارات وينسبونها إلى قيادة الجيش والاستخبارات في إطار جولات الصراع بين الأجنحة المتنافرة.
وتداولت تقارير محلية خبر توقيف المدير السابق لجهاز الاستعلامات الخارجية من طرف محققي أمن الجيش للاستماع إليه في قضايا تتعلق بالفساد واستغلال النفوذ وتلقي مزايا ومنافع غير مستحقة ونشر معلومات كاذبة من شأنها المساس بالأمن القومي، وهي التهم التي توصف بـ”الثقيلة” من منظور التشريع العسكري.
المؤسسة العسكرية تعيش على وقع تغييرات عميقة منذ 2018، حيث ظهر أكثر من جناح يريد ضبط أوتارها على إيقاعه الخاص
وبذلك ينضاف الجنرال المكنى بـ”يوسف” إلى عدد من الضباط السامين الذين مسّتهم آلة التغييرات التي جدّت في الآونة الأخيرة، بعد استقرار نسبي سجل في هرم المؤسسة العسكرية، حيث تم تغيير قائد جهاز الدرك ومسؤولي دائرتي الإعلام والتوثيق والصحة العسكرية.
وشغل الجنرال يوسف قيادة دائرة الأمن الخارجي منذ عام 2013، قبل أن يتم عزله ثم إعادته في 2017، لتضاف إليه مهمة مستشار رئيس الجمهورية في الملف الليبي، لكن تسيير الملف لم يكن متكاملا بين الجهازين الدبلوماسي والاستعلاماتي، وهو ما يرجح أنه أثر على أداء الجزائر في الأزمة الليبية.
وتعيش المؤسسة على وقع تغييرات عميقة منذ عام 2018 إلى غاية الآن، حيث ظهر أكثر من جناح يريد ضبط أوتار المؤسسة على إيقاعه الخاص؛ إذ حاول قائد الأركان الراحل الجنرال أحمد قايد صالح تثبيت موالين له في مختلف المفاصل والدفع بمخارج المشهد السياسي إلى ما يتوافق مع تصوراته، خاصة في ما يتعلق بالالتفاف على المطالب السياسية للحراك الشعبي، إلآ أن جناحه لم يعمر طويلا، وبدأ في السقوط المتسلسل منذ وفاة عرابه في ديسمبر 2019.
ورغم ذلك فإن ما تم الإجماع عليه داخل المؤسسة هو العودة إلى مصادر النفوذ التاريخي للجيش في الدولة الجزائرية، فتجاذبات الأجنحة تنحصر في الصراع على المواقع وليس على تصورات جوهرية حول دور المؤسسة داخل الدولة، ولذلك ظهرت هيمنة كبار الضباط على قرارات الشأن العام منذ تنحي الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة.
وسمح اعتلاء عبدالمجيد تبون سدة الرئاسة في البلاد بعودة قوية لنفوذ الجيش، بعدما استفاد من التفاف القيادة السابقة على مطالبة الحراك الشعبي بالتغيير الشامل ومدنية الدولة، يضاف إلى ذلك الموقع الضعيف لتبون المدعوم والمزكى بحسب كثيرين من شرعية العسكر وليس من شرعية الناخب الجزائري، ولا يملك الآن القدرة على مزاحمة نفوذ ضباط المؤسسة، عكس الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة الذي شن حملة تحييد وتفكيك على مدار سنوات حكمه إلى أن بلغ نهاية حقبة العسكر لصالح ما عرف بجناح “الأوليغارشيا”.

ورغم أن سقوط جناح أحمد قايد صالح وعودة جناح الصقور المدعوم برمزيه التاريخيين -وهما وزير الدفاع السابق خالد نزار ومدير الاستخبارات السابق محمد مدين ( توفيق ) اللذان عادا إلى المشهد، حيث تخلص نزار من حكم غيابي بعشرين سنة سجنا نافذا ومنفى اختياريا في إسبانيا، في حين تخلص توفيق من حكم بالسجن 15 عاما نافذا في 2020- أعطى الانطباع بوجود هوة سحيقة بين الجناحين يمكن أن يستفيد منها الحراك الشعبي إلا أن تعزيز نفوذ الجيش في السلطة يبقى خطا أحمر لا يمكن تجاوزه مهما كانت الصراعات.
وجاءت موجة الحرائق التي شهدتها الجزائر خلال الأسابيع الماضية في منطقة القبائل ليتم خلالها الإعلان عن تنحية قائد جهاز الدرك الجنرال نورالدين قواسمية وتعويضه بعلي يحي أولحاج، ثم ألحقت بتغيير آخر مس هرم دائرتي الإعلام والتوثيق والصحة العسكرية، حيث تمت إزاحة الجنرالين بوعلام ماضي وعبدالقادر بن جلول اللذين استخلافا بجنرالين آخرين هما مبروك سابع وبشير سويد.
وقبلها بقليل تمت إقالة الأمين العام لوزارة الدفاع الجنرال عبدالحميد غريس، الذي أحيل على التحقيق ثم السجن العسكري بالبليدة، بعد اتهامه بالضلوع في شبكة كانت تعمل على شحن خطاب الكراهية والعنصرية وتهديد تماسك المجتمع والوحدة الوطنية، في إطار ما عرف بـ”شبكة الباديسية النوفمبرية” التي كانت تشتغل على شبكات التواصل الاجتماعي لإثارة النعرات الجهوية بين الاثنيات والأعراق البربرية والعربية.
وكان من ضمن الشبكة ضباط سامون مقربون من أحمد قايد صالح، على غرار مدير الأمن الداخلي السابق واسيني بوعزة ومدير الاتصالات عبدالقادر لشخم، إلى جانب رشيد شواقي وعلي عكروم.