شرعنة التفرقة بين الأبناء تزيد من معاناة الأسر العربية

عمقت شرعنة دار الإفتاء المصرية لمسألة التفضيل بين الأبناء في الهبات والعطايا من معاناة الأسر العربية بعد أن أجازت التفرقة وعدم التسوية بين الأولاد. ويؤكد خبراء علم النفس على التأثيرات السلبية لهذا السلوك ذلك أن الابن الأقل تمييزا قد يعيش طوال حياته يشعر بالظلم. وأشاروا إلى أن الخطورة تكمن في أن يحوّل هذا الأمر الأبناء إلى أشخاص عدوانيين.
منذ أن كان محمد رزق شابا، وهو ينظر بريبة وشك لطريقة تعامل والده مع أخيه، حيث يمنحه قدرا وافيا لتفوقه الدراسي، في حين أن محمد لم يكمل تعليمه، وفي كل مرة يطلب من أبيه مساواته بشقيقه يمتنع ويعنفه.
مات الأب، ولم ينس رزق مواقفه وتعامله معه كابن من الدرجة الثانية، ويتذكر دائما إغراق شقيقه بالعطايا المادية والتدليل المعنوي لتحفيزه على المزيد من التفوق الدراسي، فترسّخت في ذهنة غيرة مقيتة تحوّلت إلى حقد.
قال الشاب المصري محمد رزق لـ”العرب”، رغم محاولات أخيه تذويب هذه الفجوة ومساعدته في كثير من المناسبات وتبرير تصرفات الأب، لكنه لم يستطع نسيان الماضي بسهولة، ومهما ضاقت به السبل أو تعرض لمشكلات حياتية حاليا فإنه لا يلجأ إلى شقيقه.
تعكس الواقعة حجم المخاطر التي تنتج عن تعامل الآباء بالتفرقة بين الأبناء، وهي ظاهرة موجودة في الكثير من المجتمعات الشرقية، والمعضلة أن الكثير من أرباب الأسر يبررون تصرفاتهم القائمة على التمييز بأن ذلك شيء طبيعي، لاختلاف طباع الأبناء وسماتهم الشخصية فكل منهم بحاجة إلى معاملة مختلفة.
تزداد الأزمة تعقيدا، عندما يتم الاحتماء بآراء دينية تغذي التمييز بين الأبناء داخل الأسرة الواحدة بذريعة التحفيز على النجاح أو إظهار الحب والمودة، وهي الفتاوى التي تكرس التفرقة داخل العائلات التي اعتادت النظر إلى التمييز باعتباره من المحرمات.
إن دار الإفتاء المصرية، قبل أيام، وردا على أسئلة متكررة وردت إليها حول تفضيل أحد الأبناء على إخوته في الهبات والعطايا، أجازت التفرقة وعدم التسوية بين الإخوة، وقالت ليس هذا بمكروه أو محرم شرعا، عند التفاوت الكبير في السن أو مساعدة أحدهم في الزواج أو الدراسة، أو في كل ما يراه الأب يستدعي الزيادة في الهبة، لأن له حق التصرف في ما يملك.

محمد هاني: الابن الأقل تمييزا ينشأ معقدا وكارها لمن حوله ويشعر بالدونية
ورأى معارضون للفتوى أنها كسرت حاجزا نفسيا طالما منع الأسر من التمييز بين الأبناء لأي سبب، حيث كانت الأغلبية تعتقد ذلك أنه من الأمور التي نهى عنها الدين، وهناك آباء نشأوا وكبروا على أن التفرقة بين الأولاد حرام شرعا، والخطر أن يعتقد هؤلاء بأنه صار عليهم التفضيل، بحجة أن الإسلام دعا إلى ذلك طالما توافرت المبررات.
إذا كانت قصة محمد رزق، تعكس مخاطر تمييز أحد الأبناء عن غيره، فإضفاء مسحة دينية على هذه التصرفات يدفع الكثير من الأسر للتمادي فيها، ولكل ربّ عائلة أسبابه المقنعة في تفضيل ابن على آخر، وثمة من يغدق على الولد باعتباره يحمل اسم العائلة أمّا البنات فسوف ينتقلن إلى عائلات أخرى تورّث أبناءهن أسماءها، وآخرون يميزون الذكر على الأنثى كتقليد مجتمعي متجذر في المحيط.
رأى محمد هاني، وهو استشاري متخصص في الصحة النفسية، أن الكثير من الأسر التي تميّز أحد أبنائها عن إخوته يرتكبون أخطاء جسيمة عن جهل في حق الطرفين، سواء المميز أو الأقل تمييزا، فالأخير ينشأ معقدا وكارها لمن حوله ويشعر بالدونية وعدم الثقة بالنفس وتتولد لديه مشاعر الكراهية والغيرة والحقد ويعيش بقية حياته شخصا غير سوي.
يُضاف إلى ذلك، أن الابن الأقل تمييزا قد يعيش طوال حياته يشعر بالظلم وعدم المساواة، ومع كل تصرف يراوده الإحساس بأنه مستهدف أو قليل الإمكانيات بدليل أنه لم يستطع حينذاك لفت انتباه والده، والخطورة أن يتحول إلى شخص عدواني أو يميل إلى العزلة ولا يثق فيمن حوله، ما ينعكس على أدائه في الحياة لسرعة إحساسه بالفشل.
وأما الأول، والذي تم تمييزه عن غيره، سيكون إنسانا أنانيا محبا للتملك والسيطرة على كل شيء، ويشعر دائما بأنه أفضل من غيره، فلا يتقبل النقد ولا يعترف بالخطأ، ويتعامل طوال الوقت على أنه شخصية استثنائية، لأنه تربى وكبر على فكرة تفضيله على غيره، والمشكلة أنه قد يستمرّ في التعامل مع المحيطين به على هذا الأساس.
قال هاني لـ”العرب”، إن أغلب الخلافات التي تحدث بين الأبناء إذا حاولت الاقتراب من أسبابها، تأسست على التفرقة بينهم من جانب الأبوين، لأسباب مرتبطة بالتدليل أو التمييز المادي والمعنوي، والاقتراب من أحدهما على حساب جفوة الآخر، وتحفيز هذا وإهانة ذاك، وهو انعكاس واضح لخلل في التربية عند الأهالي.
الأزمة تزداد تعقيدا، عندما يتم الاحتماء بآراء دينية تغذي التمييز بين الأبناء داخل الأسرة الواحدة بذريعة التحفيز على النجاح
ويشير متخصصون في العلاقات الأسرية، إلى أن وقائع عقوق الوالدين التي صارت موجودة بقوة نتيجة طبيعية لقيام أحد الأبوين في الماضي بالتفريق بين أبنائه، ومع الوقت يبادل الابن الأقل تمييزا، الأب أو الأم، مشاعر الكراهية بذريعة أنه تعرض للظلم في الصغر، وحان الوقت للانتقام من الطرف المتهم.
ويؤكد هؤلاء أن الميول الأبوية المختلفة تجاه أحد الأبناء نتيجة طبيعية، بحكم أن الأولاد بطبيعتهم مختلفون في السمات الشخصية، هذا طيب ومطيع وحنون، والآخر قاس ومتمرد وجاف، لكن الإفصاح عن التمييز بينهم مهما كانت الدوافع يؤسس لأسرة مفككة تسودها مشاعر الحقد والأنانية والكراهية.
قد لا يدرك الآباء والأمهات أن الغيرة بين الأبناء من الأمور الطبيعية بحكم تركيبة النفس البشرية، لكنها متفاوتة بين ابن وآخر، بسبب التنافس بينهما على التقارب مع الأبوين ونيل رضاهما، وبالتالي تتحول الغيرة الحميدة إلى حقد وكراهية إذا جرى تفضيل أحد وتجاهل الآخر.
أكدت عنان حجازي، المتخصصة في الإرشاد الأسري وتقويم السلوك، أن أي تربية أسرية قائمة على التمييز لا العدل والمساواة بين الأبناء، تؤسس لعلاقات مستقبلية شديدة الخطورة على كل الأفراد، فالأب يصطدم بجفاء الأبناء، والأولاد أنفسهم يصبحون غير أسوياء في علاقاتهم. وأضافت لـ”العرب”، أن التفرقة بين الأبناء تمتدّ لأسرهم مستقبلا، فمن تعرّض للتمييز في الصغر قد يطبق ذلك مع أولاده لاحقا، لأن الإنسان يكتسب السلوكيات من عائلته، ثم يتعامل بها مع الآخرين، فالذي يغير من زملاء العمل كان غيورا من طريقة تعامل أبيه مع شقيقه أو شقيقته، حتى صارت الغيرة جزءا من شخصيته.
تقود هذه التحذيرات إلى حتمية وضع أسلوب تربية يراعي الأبعاد النفسية والسلوكية داخل الأسرة ويقوم على المساواة بين أفرادها، لأن التفرقة تورث الجفاء بين الأبناء والعقوق تجاه الآباء، وكلما كان هناك عدل في العطايا والمشاعر الممنوحة للذكور والإناث في الأسرة تتعزز اللُحمة بين أفراد العائلة بشكل يصعب معه تسلل مشاعر الحقد والكراهية إليهم.