سيرة نجيب محفوظ تداعب مؤلفي الدراما

هل سينجح أحمد حلمي في تجسيد شخصية أديب نوبل.
السبت 2021/01/23
الدراما قد تشوه شخصية محفوظ

تأتي الأنباء المتداولة عن اعتزام إطلاق عمل درامي وشيك، يتناول سيرة أديب نوبل نجيب محفوظ، لتفجر مجموعة من القضايا المتشابكة، وتثير من جديد الإشكاليات المتجذرة لمثل هذه الأعمال التي تجسّد المشاهير العرب، وعلى رأسها التضخيم والمبالغة وإخراج الشخصية محل الاحتفاء من طبيعتها البشرية وقابليتها للتقييم والمراجعة بل والانتقاد.

تفتح الأنباء عن التحضير لعمل درامي عن سيرة حياة نجيب محفوظ، الباب للبحث عن خصوصية تركيبة الأديب، وامتداد عمره، وهندسة منظومته، وتنوع أعماله وكتاباته واهتماماته ومذاهبه السردية ومسارات تأويلها، وتعدد أبطاله وحملة أفكاره، وزخم رؤيته الأدبية والفلسفية، وقداسة دائرة علاقاته الأسرية وصداقاته، كلها أمور تجعل الاقتراب من رحلته الإبداعية والإنسانية بالكاميرا مغامرة محفوفة بمخاطر حقيقية، ولعل هذا سبب تأخير هذا المشروع سنوات طويلة.

منذ فترة غير بعيدة، التقى كاتب هذه السطور السيدة أم كلثوم، ابنة أديب العربية الأبرز نجيب محفوظ، عقب تعرض البعض لأسرته، التي ظلت سنوات طويلة بعيدة عن الإعلام، حيث اتهموها بأنها غير راضية عن بعض أعماله الإبداعية مثل “أولاد حارتنا”، وقرن هؤلاء ما أطلقوه من أقاويل بارتداء ابنتي محفوظ؛ أم كلثوم والراحلة فاطمة، الحجاب، وأفرطوا في الخوض في أمور شخصية.

وقالت أم كلثوم، وهي غاضبة “والدي رحمه الله كان كاتبًا، وأتعجب من هؤلاء الذين يتركون أدبه ليتناولوا شؤون أسرته، ويتحدثوا على ألسنتنا، ويفكرون نيابة عنا، أمر مؤسف حقًّا، أن يمتد الظلم الذي طال محفوظ وبعض أعماله إلى ما بعد رحيله، ونحن فخورون بكل ما كتب، ونكذّب كل ما روّجه شلة المنتفعين”.

وتساءلت “العرب” عما إذا كانت أسرة محفوظ تتحفظ على تقديم عمل درامي يتناول شخصيته، خوفا من هذا التسلل إلى حياته الخاصة، وتشويهها بقصد أو عن غير قصد، وحكت ابنته أن الفنان الراحل أحمد زكي عرض على والدها عمل فيلم سينمائي عن تجربته، لكنه رفض الفكرة “حماية لحياته وحياة أسرته الشخصية”، فمثل هذا الفيلم قد يكون دافعا للخوض في جوانب حياتية تتعلق بالكاتب وأسرته.

وأكدت أم كلثوم لـ”العرب” أنه في الوقت الحالي، وإن كان التحفظ ذاته لا يزال قائما، فلا مانع من كتابة وإنتاج فيلم أو مسلسل درامي وليس تسجيليّا عن نجيب محفوظ، بشرط أن يكون عنه ككاتب وأديب في المقام الأول، ثم تأتي الأمور الشخصية كمجرد خلفية.

وكانت ابنته الراحلة فاطمة تود كتابة مثل هذا الفيلم، فمحفوظ ليس كاتبا نخبويّا كما يشيع البعض، بل هو أديب الناس، وكان في صالوناته الأدبية يخاطب المثقفين والعاديين، ويناقش أمورا أدبية وحياتية ببساطة، وبالتالي يمكن التحدث عنه ومناقشة أعماله وما يتعلق بها ببساطة أيضا، دون إهدار التحليل والتعمق.

أم كلثوم ابنة محفوظ لـ"العرب": لا مانع من إنتاج عمل فني عن أبي الكاتب والأديب وتبقى الأمور العائلية والحياتية بعيدة عن ذلك
أم كلثوم ابنة محفوظ لـ"العرب": لا مانع من إنتاج عمل فني عن أبي الكاتب والأديب وتبقى الأمور العائلية والحياتية بعيدة عن ذلك

خيط الأمل

تعلق بخيط الأمل في استلهام شخصية محفوظ مجموعة من كتّاب السيناريو اللافتين، من أبرزهم عبدالرحيم كمال، الذي يبدو أنه اقترب كثيرا من تحويل الحلم إلى حقيقة، بالتواصل مع أسرة محفوظ للاتفاق على تفاصيل العمل، على أن يتم الاعتماد فيه في المقام الأول على إبداعات محفوظ، وأفكاره، ومضمون كتبه، لتكون السيرة الذاتية مستنبطة فنيّا من خلال تلك المؤلفات، وتسربت أنباء حول ترشيح الفنان أحمد حلمي لشخصية محفوظ، بشكل مبدئي.

من هذا المنطلق، يصير ممكنا استشراف قرائن جوهرية توحي بإمكانية استكمال المشروع في هذه المرة، وعدم توقفه مثل المحاولات السابقة التي لم تكلل بالنجاح.

على الصعيد الإجرائي، قطع الكاتب شوطا كبيرا في تفاهماته مع ابنة الأديب الراحل، للحصول على موافقة الأسرة، وعلى الصعيد الأدبي الفني، فثمة تقارب واضح بين رؤيتيهما بشأن تقديم محفوظ ككاتب من خلال أعماله، فهي ليست سيرة ذاتية بالمعنى التقليدي الشائع.

أمر آخر ضمني، لكنه دالّ، يتفق فيه الطرفان، ويمكن التقاطه من بين ثنايا السطور. ففي تصريحها لـ”العرب”، أكدت ابنته أم كلثوم حرصها على إظهار وجه من وجوه محفوظ، هو وجه الجسارة والإقدام، نافية الاتهامات التي وصفته بأنه لم يكن جريئا على مستوى المعارضة السياسية في كتاباته الإبداعية وآرائه الشخصية، وذكرت أنه بالنسبة إلى كتاباته الأدبية “يكفي أن هناك نقادا يدركون جرأة طرحه السياسي في روايات من قبيل: الكرنك، ثرثرة فوق النيل، ميرامار، وغيرها”.

أما بالنسبة إلى آرائه ومواقفه الشخصية، فقد كان محفوظ جريئا في الانتقاد، ولديه الشجاعة لقول ما يؤمن به بوضوح، ودعا إلى السلام مبكرا في زمن الحرب، وقدم آراء سياسية صادمة على غير هوى حكّام مصر والعرب. وقال بعد هزيمة 1967 في لقاء له بالأهرام مع العقيد الليبي الراحل معمر القذافي “فلنجرب السلام”، وهنا اتهمه القذافي بالجنون. كذلك وقف محفوظ موقفا معارضا لحالة اللاسلم واللاحرب، وطالب بانتخابات وتعددية سياسية في عهد عبدالناصر، وتكررت مثل هذه المواقف كثيرا.

بدوره، فإن عبدالرحيم كمال كثيرا ما أثنى على هذا الوجه الجريء تحديدا في أعمال محفوظ، وفي إحدى تغريداته كتب موضحا “ليس هناك كاتب في مصر تمكن بكل ذوق وأدب من كسر التابوهات الثلاثة: الدين والجنس والسياسة، إلا نجيب محفوظ، الذي كسّرها برشاقة واقتدار”.

سبل النجاة

Thumbnail

اتفق الطرفان المعنيّان على أن إبداعية محفوظ المجرّدة، وجرأته المغبونة، هما محورا العمل الدرامي الذي سيتناول تجربته، لكن كيف سيكون العمل حال كتابته وتصويره وإنتاجه وخروجه إلى النور؟ وهل سيمضي حُرّا جسورا بغير محاذير وحسابات؟ وما سبل نجاة شخصية نجيب محفوظ من عيوب تجسيد المشاهير دراميّا، التي أفسدت العشرات من المسلسلات والأفلام المصرية والعربية في هذا السياق؟

يجد المتابع للمشهد أن الخطورة مزدوجة في الظرف المحفوظي الحسّاس، فقد جرت العادة على أن المسلسلات والأفلام الخاصة بالسير الذاتية، وما أكثرها، مثل: إمام الدعاة (الشيخ الشعراوي)، وناصر 56، وأيام السادات، وأم كلثوم، وحليم، أبوضحكة جنان (إسماعيل ياسين)، والشحرورة (صباح).

وخلطت هذه الأعمال بخفة بين الذاتي والموضوعي، فصبغت الحياتي بالتاريخي لدى الشخصية دون مبرّر، وتبدو التصرفات الاعتيادية واليومية كأنها مصيرية أو بطولية أو فوقية، وتتضخم الأنا الجاري تجسيدها متصفة بالمثالية القصوى، وتتوارى مجالات الاتفاق والاختلاف الطبيعية حول الشخصية، التي لها ما لها وعليها ما عليها بالضرورة، وتتحرك الأحداث في اتجاه التخديم على تحركات البطل وإبرازه كمركز أوحد، وما إلى ذلك من انحرافات لا تتسق مع شروط الدراما وضوابطها.

من الصعوبة تقبُّل تقديم شخص نجيب محفوظ، وهو صانع الشخصيات البشرية المعقدة المحبوكة، بوصفه وجها ملائكيّا لا يحيد عن الصراط، كما أنه لن يكون متاحا إدراج سلوكيات شخصية أو حتى معارك فكرية وأدبية تظهره في موضع غير لائق أو خاسر.

وهنا فالمخرج الآمن هو تهميش الشخصي والحياتي، واستبعاد كتب المذكرات والاعترافات ومجالس شلة الحرافيش والحوارات الصحافية التي أجراها، وغيرها من الأوراق التي ترصّدت محفوظ، الكائن البشري، خصوصا أن أسرته تحفظت على الكثير من هذه المؤلفات، ووصفتها بعدم الدقة، وأنها تقدم آراء محفوظ وترسم ملامحه بصورة خاطئة مجتَزأة.

لعل المدخل الأنسب لرسم شخصية محفوظ، الذي حرره الفن من قيود الوظيفة والعمل الحكومي في وزارات مختلفة، هو أدبه بالتأكيد، وشخصياته المتناقضة التي تحمل تأملاته العميقة وصراعاته الداخلية وحيرته بين المبدع المتجاوز والموظف المنضبط، فمونولوج استبطاني مثلا يحدّث به “كمال عبدالجواد” نفسه في “الثلاثية” أنسب في تصوير روح محفوظ من نقاش عائلي لن يُمكن نقله مثلما دار في الحقيقة لاعتبارات كثيرة، وتماهيه مع شخصية “سي السيد” التي ابتدعها سيبرز جوانب من حياته ومواقف خاضها وأمكنة ارتادها، خصوصا قبل زواجه المتأخر، لن تكون هناك مساحة حرية لإثبات علاقته بها، على مستوى الواقع الفعلي، رغم تحدثه صراحة عن ذلك في جلساته وذكرياته.

كما أن الأسلوب النمطي في تتبع حياة الشخصية دراميّا لا يبدو مناسبا بالمرة في حالة نجيب محفوظ، صاحب الرحلة الطويلة التي لا يمكن أن يتسع لها عمل درامي، واختزال رحلته في لحظة معينة، ولو فارقة، مثل حصوله على نوبل عام 1988، أو تعرضه لحادث الاعتداء الغاشم الذي كاد يودي بحياته عام 1994، سيخلّ بثراء الشخصية وعمقها، ويقصر العمل على زوايا محدودة دون غيرها.

وتحيل هذه الملابسات كلها إلى أن الإسقاطات من خلال شخصياته وأعماله هي الأنسب لتقديم شخصيته الأدبية والإنسانية، في حين تبقى علاقاته الأسرية والاجتماعية مبسّطة وفي إطار طبيعي هادئ، بشكل غير بعيد الصلة عما جرى تجسيده في الأفلام التسجيلية التي تناولت تجربته، وظهر فيها أصدقاؤه الحقيقيون وأفراد عائلته بكلمات قليلة معبّرة في الهامش، في حين احتلت أفكاره وإبداعاته وشخصياته وأمكنته الروائية المتن المضيء الكاشف لعالمه وذاته في آن.

ويبقى الرهان معقودا على ثقافة كاتب السيناريو ووعيه وذكائه في التقاط نقاط حساسة، ليس مهمّا أن تكون كثيرة، بقدر ما يجب أن تكون نافذة ومؤثرة في استدعاء جوهر شخصية محفوظ.

Thumbnail
13