سكون اللبنانية أني كورديدجيان جليد ونار مشتعلة

تصور الفنانة اللبنانية أني كورديدجيان بنات جنسها في لحظة سكون، لكنه سكون معبّر تستمده الفنانة من شعورها الباطني الذي تنهل منه ما يعبّر عن جراحها وجراح الآخرين لتطبيبها إن صح التعبير عبر لوحات صادمة تستدعي تركيز المتلقي وقدرته على التحليل والاستيعاب.
افتتحت صالة "وادي فينان" في العاصمة الأردنية عمان معرضا للفنانة التشكيلية اللبنانية والأرمنية الأصل أني كورديدجيان تحت عنوان "سكون" ويستمر المعرض حتى السابع عشر من ديسمبر الحالي. ويضم المعرض مجموعة كبيرة من اللوحات مشغولة بمادة الأكريليك ومواد أخرى.
تقدم الفنانة أني كورديدجيان معرضها الجديد المعنون بـ"سكون" بهذه الكلمات المقتضبة "نساء في سكون يستعرضن ذاتهن في جوّ من التخلي. غير أن هذا التخلي البادي على ملامحهن وهيئات أجسادهن ليس إلا ظاهر ما هن عليه في الحقيقة إذ أنهن يستحوذن على فضاء اللوحات ويمتلكن قوانين اللعبة..". وتضيف قائلة "أحجام كبيرة جدا من اللوحات وأخرى صغيرة إلى درجة بالإمكان وضعها في جيب حقيبتك وأن تتأمل فيها وقت ما شئت".
هكذا قدمت الفنانة معرضها وهكذا خاطبت زائريه كمن يخاطب همسا أحد الأصدقاء ناصحا إياه بأن ينتقي بترو من بين اللوحات الصغيرة لوحة تخاطب دون تحفظ وجدانه وألمه الشخصي ليدسها في السر وليتأمل من خلالها، وقت ما يشاء، بلاغة تجسّد فكرة مُقلقة استحوذت عليه أو اختبرها ولم يجرؤ يوما على الإفصاح عنها أمام ذاته أولا وثانيا أمام الآخرين.
لوحات أني كورديدجيان تبدو في معرضها هذا رغم الكآبة الغرائبية التي تتصف بها لوحات “مُبلسِمة” إذا صح التعبير، لأنها اختارت أن تنكأ الجرح، جرحها وجرح الآخر، لتطهره بدلا من رصه بضمادة دون أي معالجة.
كم كان سيغموند فرويد عارفا بالنفس البشرية حين قال كلماته الرائعة تلك بما معناه: إن أبصرت خلال نومك كابوسا بطله أسد يتحضر للانقضاض عليك، وكنت في حالة من الوعي بحيث يمكنك التدخل في مسار كابوسك، لا تهرب، بل انظر في عين الأسد. عندها ستكتشف أمامك هوية خوفك الحقيقية، خوفك الذي انتحل هيئة الأسد المهاجم. هنا تحديدا يبدأ التعافي النفسي.
إضافة إلى كون لوحات الفنانة الجديدة مُبلسمة فهي أيضا تبدو وكأنها تكاد أن تختصر كل المواضيع الشائكة نفسيا ووجوديا وجسديا التي تناولتها في معارضها السابقة. ويأتي هذا السكون الذي تضرمه الفنانة في لوحاتها جليدا ونارا مشتعلة.
مرورا بجميع معارضها الفردية وهي كثيرة تمّ تصنيف أعمالها الفنية على أنها مزيج ما بين التعبيرية والسريالية مع التأكيد على علوّ نبرة سرياليتها. ولكن اللغة الفنية التي تعتمدها الفنانة في معظم لوحاتها ربما هي غير ذلك. التفكّر في ماهية هذه اللغة الحديثة ليس ترفا، بل هو أساسي في فهم المعادلة الفنية التي تتبناها الفنانة في تشكيل لوحاتها.
بشكل مبسط ومقتضب جدا، ما هو التجريد الفني؟ التجريد قوامه الأساسي هو الانطلاق من الواقع ومن ثم تحرره من هيئاته التقليدية المعروفة لدى كل الناس.
بعد هذا الانطلاق يقيم الفنان التجريدي لغة جديدة ويبني معنى جديدا لم يعد على صلة مباشرة بهذا الواقع. والفنانة أني كورديدجيان، “التشكيلية” في الظاهر لم تكن يوما بعيدة جدا عن هذا التجريد. ولكنها أقامت تجريدا خاصا بها إنما بالشكل المعكوس.
المقصود أنها تناولت التجريدي بطبيعته كالأفكار المُلحة والمشاعر لاسيما المخاوف والهواجس على أنواعها، تلك العادية التي يمر بها كل البشر وتلك العنيفة حتى حدود المرضية التي تمكنت من أشخاص كثر خاصة هؤلاء الذين عانوا شتى أنواع الحروب الدامية وأهوالها، تناولتهم في أعمالها ليس من خلال حمّالين لها من كائنات بشرية. بل جعلت لهذه المشاعر والأفكار أجسادا بشرية – غرائبية بالطبع – كي تتمكن من أن “تكون” تلك المشاعر دون أي تحفظ أو مداراة للذوق العام.
وهي القائلة، أي الفنانة، "مواضيعي هي "مَرضى السِّفِليسْ، ملوكٌ حمقى، دُمى، مُصابون بقَرقَرَةِ البَطن، باصِقو دماء، البَابَا، استمنَاءُ رَجلٍ بدينٍ، أحمقٌ يَعُضُّ بَطَّةً، مساجينٌ.. هناك أيضا أنا – نفسي، امرأةٌ تنمُو إلى ما لا نهاية في الزمانِ والمكانِ، مثل خيطٍ مَرِنٍ يَرتَدُّ فجأةً إلى نفسه. أعمالي الفنية هي أسلوبي، هي أنا - نفسي (أو ما أزعمُ أنِّي)، هي الجِلْدُ الذي أحيَا داخلهُ، هي إقامتي في الجَحيم، هي خلاصِي، وفِردَوسِي".
ما من لوحة للفنانة، هذه الجديدة والسابقة، إلا نادرا، ولم تكن فيها هذه الأجساد “غير الأجساد” غير قادرة على التلوي والانشطار والتمدد والانسياب والتحجر والتهدج والتفكك والذوبان والتضخم لـ”تكون” الأفكار الرهيبة التي عصفت بها أو المشاعر العنيفة التي ألمّت بها. ربما لأجل ذلك نراها وكأنها قد تكون أجسادا حقيقية، ولكن لصنف آخر من البشر لم نعرفه وكأنه من كوكب آخر.
◙ رسومات الفنانة أني فجة وصادمة وواضحة. منبعها الرئيسي حالة الفصام التي يمكن أن تعيشها نخبة من الناس
ومن هنا في استطاعتنا أن نقول إنه أغلب الظن إن رسمت الفنانة يوما ما جسدا ليس فيه غرابة ما وإن غرابة صغيرة، بغض النظر عن غرابة الموقف الذي يمكن أن تضعه فيه، سنشعر مباشرة بأننا صرنا أمام جسد حقيقي يحمل شعورا أو فكرة ما وليس هو في حد ذاته هذا الشعور أو هذه الفكرة. لعل أروع ما في الفنانة أني كورديدجيان أنها شديدة الالتصاق بلاشعورها الباطني وقدرتها على الدخول إليه والنهل منه دون ارتواء.
وتجيء رسومات الفنانة أني فجة وصادمة وواضحة. منبعها الرئيسي حالة الفصام التي يمكن أن تعيشها نخبة من الناس عندما تتذوق طعم الموت والحياة في لحظة واحدة كما في زمن الحرب والفنانة ابنة الحرب اللبنانية. لذلك جاءت لوحاتها السابقة الأيروتيكية التي تنحو نحو البورنوغرافية غير استعراضية بالمعنى المباشر ولم تكن رخيصة لدغدغة عين المشاهد الذكوري في المقام الأول بقدر ما كانت في حالة تماس مخيف مع الموت والحياة، اللذة والألم.
تجارب وجودية طعمتها الفنانة بنقدها اللاذع للسياسة والمجتمع وحياة البشر فيما بينهم بشكل عام لاسيما حين يكون العنف هو سيد الموقف. كمثال ساطع على "التجريدية" الخاصة بالفنانة يمكن ذكر اللوحة التي تظهر فيها امرأة ينساب فيها شعرها من رأسها ومن عينيها ومن فمها
ومن منخارها. الشعر هو النزيف. والنزيف هو الألم. الواقع هو تجريدي والتجريد هو الواقع. إنها لوحة أني كورديدجيان. يجدر الذكر أن الفنانة أني كورديدجيان هي من مواليد 1972 حاملة لإجازة في علم النفس من الجامعة اللبنانية إلى جانب دبلوم دراسات عليا في الفنون التشكيلية وماجستير في إدارة الأعمال. لها مشاركات في معارض جماعية كثيرة داخل وخارج لبنان كما قدمت معارض فردية عديدة.