سامح الجباس: "رابطة كارهي سليم العشي" سيرة أغرب كاتب عربي

بين حين وآخر تطل علينا بعض الشخصيات الغامضة، تترك تحركاتها وأطروحاتها ومعاركها تساؤلات متعددة لدى البشر، وتمضي في سكون، لكن حكاياتها تبقى ألغازا دائمة يثير استدعاؤها حيرة واهتمام الناس، وهو ما تفطن له الروائيون العرب، على غرار المصري سامح الجباس، الذي كان لـ”العرب” معه هذا الحوار حول غموض بعض الشخصيات التاريخية وعلاقته بالروائيين.
يكفي الغموض المحيط بالعديد من الشخصيات التاريخية لفتح مسارات جديدة للروائيين العرب للمُضي قدما في إنشاء عوالم ساحرة لهم، استثمارا لحالة الشغف بما يكتنف هؤلاء الأشخاص، وتحريرا للخيال السردي في تقديم حكايات مُدهشة.
ومن الشخصيات الغامضة المثيرة في تاريخ العالم العربي الحديث الكاتب اللبناني سليم موسى العشي، الشهير باسم الدكتور داهش، والذي كان حديث الصحافة والأوساط الثقافية في العالم العربي خلال الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي لقيامه بأعمال خارقة للطبيعة، وكانت له أفكار غرائبية، واجهها المجتمع بحدة وقمع، ما دفعه في ما بعد للهجرة من لبنان إلى نيويورك حيث توفي هناك سنة 1984.
التقط الروائي المصري سامح الجباس حكايات منثورة وغامضة حول الرجل ليطرح رواية مثيرة عنه تحمل عنوان “رابطة كارهي سليم العشي”، تتبع فيها شهادات متناقضة بشأن الرجل، وما قدمه من أفكار، وما أثار به الناس من أعمال خارقة، ومَن التقى بهم في بيروت، ثم القاهرة، ثم نيويورك، كأنه يعيد اكتشاف الرجل، دامجا الحقيقة بالخيال، ومزاوجا بين البحث الاستقصائي والسرد الروائي.

سامح الجباس: كل روائي يمكنه أن يُقدم تفسيرات إنسانية جديدة لألغاز يصعب تفسيرها علميا أو منطقيا في حينها
في تصوره، كل روائي يمكنه أن يُقدم تفسيرات إنسانية جديدة لألغاز يصعب تفسيرها علميا أو منطقيا في حينها، وهو الأقدر استنادا للخيال المفترض في العمل الروائي على طرح رؤاه دون سوء تفسير محاكمة مجتمعية تهتز أمام أي طرح مختلف.
البحث عن الغريب
يقول الروائي المصري في حواره مع “العرب” إن قالب الرواية يعد نموذجيا لتقديم الإنسان الآخر، بفكره وتصوراته وآرائه، وما يثيره من جدل، وبما يواجهه من قمع ورفض من الشريحة الأكبر للمجتمعات التي تعرف بأنها محافظة.
ويكشف الجباس أن دوافع اختياره لشخصية سليم العشي لبناء روايته عليها، لأنه قرأ قبل نحو أربع سنوات فقرة صغيرة في رواية ذكرت اسم الرجل الغريب وبعض خوارقه التي يتحدث عنها الناس، ما أثار قرون الاستشعار واستفز ذهنه للبحث عن قصة الرجل والسعي إلى تقديم حكايات شبه مكتملة عنه.
ويؤكد أنه استغرق ثلاث سنوات في رحلة البحث عن هذه الشخصية الغامضة، والتي تندر الوثائق والمصادر بشأنها، ولا تتاح كتبه المنشورة التي زادت عن مئة وخمسين كتابا في العالم العربي، وواجهته صعوبات عديدة خلال الكتابة، أهمها أن كافة شخصيات الرواية حقيقية، لكن لا توجد عنها تفاصيل كافية، ما دفعه إلى نسج تصوراته التي يمتزج فيها الخيال بالواقع، سعيا وراء شغف المعرفة.
تساؤلات عديدة مازالت تطل برأسها بشأن العشي أو الدكتور داهش، من عينة إن كان الرجل ساحرا، قديسا، شاعرا، مجنونا، أم صاحب رسالة؟ وما هو سر المعجزات والخوارق التي اشتهر بها، وكيف آمن به الكثير من الناس، وكيف واجه وحده اضطهاد المجتمع له؟
يوضح الجباس أن هناك الكثير من الشخصيات التي قامت بأدوار مهمة في تاريخنا المعاصر والقديم، وتستحق سحبها إلى ساحة الرواية وإعادة استنطاقها ورسمها بروح مغايرة، “مثل هذه الشخصيات استهوت الكثير من الروائيين فى الفترة الأخيرة للكتابة عنها ونفض الغبار عن أكفانها”.

كتاب يمزج الحقيقة بالخيال
ويشير إلى أن المؤرخ ينقل الوقائع التاريخية كما هي من دون مشاعر تفسيرية، أما الروائي فعليه الشك في الوقائع ثم محاولة تفسيرها بشكل إنساني، فالروائي لا يجب أن ينقل أي حدث كما حدث بالفعل، وإنما عليه أن يتعايش مع ذلك الحدث أو يتقمص تماما شخصياته. ويتابع قائلا “إذا فعل الروائي ذلك استطاع أن يكتب مواقف لم يذكرها التاريخ، إلا أنها من فرط التعايش تبدو حقيقية أكثر من الأحداث المثبتة”.
واستعان الجباس بما كتبه الروائي المصري الراحل صالح مرسي في مقدمة روايته “كنت جاسوسا لمصر في إسرائيل.. رأفت الهجان” للتعبير عن تصوره بشأن تماهي الكاتب مع المكتوب عنه.
ويقول “إذا كان الخلق الفني نوعا من أستار السرية المفروضة والضرورية، فهو أيضا نوع من تجميل تلك الجهامة المروعة التي تحيط عادة بالعمل السري. وإذا كان الأمر كذلك، فإنه لا بد لهذا الخلق الفني الوافد والجديد أن يمتزج بالواقع المتاح للكاتب امتزاجا كيميائيا يستحيل بعده على القارئ أن يفرق بين الواقع والخيال”.
مهارات خاصة
يقول الجباس إن مزج الحقيقة بالخيال يحتاج إلى روائي يملك مهارات خاصة، يُجيد تقمص حيوات الآخرين والتماهي التام معها، أي يعيشها بأفكارها ومشاعرها وزمنها ورؤاها، وفي هذه الحالة فقط ينجح المبدع في مزج الحقيقة بالخيال، لكن في حدود وإطار لا يخرج به عن “أفكار وتصرفات وردود أفعال الشخصية الحقيقية وإلا كان الموضوع غير مستساغ للمتلقي”.
ويرى الأديب المصري أن التاريخ غير المروي هو تاريخ الناس وليس تاريخ الزعماء، وإذا أنجب أي بلد في الدنيا زعيما واحدا في حقبة زمنية ما، فإنه ينجب في المقابل مئات، بل آلاف، وعشرات الآلاف من الأشخاص المميزين الذين قاموا بأفعال وتركوا بصمات هامة في زمانهم، إلا أن كُتاب التاريخ دائما لا يرون سوى الأحجام الكبيرة من البشر، أي الزعماء، ويعجزون عن تمييز الشخصيات المؤثرة بعيدا عن عالم السياسة، وهنا يأتي دور الروائي كمستكشف مقابر، ورحالة عبر الزمان والمكان، بحثا عن إضافات جديدة.
هناك الكثير من الشخصيات التي قامت بأدوار مهمة في تاريخنا وتستحق سحبها إلى ساحة الرواية وإعادة استنطاقها
ويشير الجباس في حواره مع “العرب” إلى أنه مارس مهمة الاستشكاف خلال روايته الأخيرة، خاصة أن أحداثها مضت منذ نحو ثمانية عقود، وصاحبها رحل منذ نحو ثلاثة عقود، لكن لم يتصد أي كاتب لسيرة الرجل ولم يحاول أي مبدع الخوض في المحيط الزماني والمكاني لسيرته.
وبشكل عام، فإن الجباس يعتبر اللغة مسارا مهما للتعبير عن الزمن المحكي عنه، ويحاول تقديم تجارب متنوعة في ذلك عبر رواياته المختلفة، فينتقل كثيرا من لغة قديمة إلى حداثية، ومن تعبيرات بلاغية إلى أخرى مبسطة وشائعة.
ويلفت إلى أنه يقرأ ويتابع معظم الروائيين العرب خاصة الأجيال الجديدة منهم، مؤمنا بأن لكل جيل إسهاماته وتصوراته الزمنية للجمال والمتعة، ويهتم بشكل كبير بقراءة كتب النقد والتاريخ والكتب الفكرية والفلسفية والعلمية.
تعريف سامح الجباس
● سامح الجباس طبيب وروائي وسيناريست من مواليد مدينة بورسعيد، شرق القاهرة، وصفه الروائي إبراهيم عبدالمجيد بأنه كاتب يحب المغامرة في شكل الرواية وموضوعها، ويجيد التعامل مع التاريخ الإنساني بشكل متفرد.
● وصدر للجباس ثلاثة عشر كتابا، من بينها روايات ومجموعات قصصية، وفاز بعدة جوائز أدبية، أبرزها جائزة كتارا للرواية سنة 2015 وجائزة إحسان عبدالقدوس للرواية سنة 2011، وترجمت بعض أعماله إلى اللغتين الإنجليزية والفرنسية.
● ونشر أول أعماله القصصية سنة 2006 بعنوان «المواطن المثالي» عن دار ميريت للنشر، ثم صدرت روايته الأولى سنة 2008 بعنوان «حي الإفرنج» عن دار العين، ما لفت أنظار النقاد وجمهور الأدب إليه، ثم تبعتها روايات «بورسعيد»، و«كريسماس القاهرة»، و«حبل قديم وعقدة مشدودة»، و«على سبيل المثال»، و«نادي النيل الأسود السري»، فضلا عن كتاب آخر بعنوان «كيف تكتب السيناريو؟»، إلى جانب قيامه بترجمة عدد من الروايات الكلاسيكية للكاتب الإنجليزي سومرست موم.