رُهاب في تونس اسمه الخصخصة

إثارة وضعية الشركات المملوكة للدولة التي ما انفكت تسجل خسائر مالية تبدو ملحة أكثر من أي وقت مضى للتخلص من أعبائها وجعلها تنفق على نفسها بنفسها.
السبت 2022/01/22
شركة مدرة للثروة تحتاج لنفض الغبار عليها

إثارة وضعية الشركات المملوكة للدولة التي ما انفكت تسجل خسائر مالية عاما تلو آخر، بعد أن كانت تحقق أرباحا وتساهم في تمويل الموازنة التونسية، تبدو ملحة أكثر من أي وقت مضى للتخلص من أعبائها وجعلها تنفق على نفسها بنفسها.

السؤال المطروح بقوة اليوم هو: لماذا كل هذا الإصرار من قبل المسؤولين في الدولة، وخاصة من هم في هرم السلطة، على عدم اللجوء إلى بيع أسهم في الشركات الحكومية لتعزيز كفاءتها التشغيلية وإنقاذها من حالة التعثر وشبة الإفلاس التي تمر بها؟

لم تكن تقييمات صندوق النقد الدولي هذا الأسبوع حول ضرورة القيام بإصلاح هيكلي للمالية العمومية أمرا مفاجئا، فمنذ 2011 ظلت مثل هذه التقييمات المدعومة بمؤشرات صادمة عن حالة الاقتصاد التونسي هي السائدة. حيث لم تعر كل الحكومات المتعاقبة أي اهتمام بمدى خطورة ما ستؤول إليه الأمور لاحقا أو ربما تراخت عن القيام بما كان يلزم فعله.

في هذه الأثناء يأتينا تقرير صادم من وزارة المالية ليؤكد عجز الخطط الحكومية السابقة عن إنقاذ الشركات المملوكة للدولة الغارقة في الديون وسط غابة من المشاكل الهيكلية المزمنة التي تفاقمت نتيجة بطء الإصلاحات الاقتصادية بعد أن وقفت الصراعات السياسية حائلا أمام جعلها داعما للنمو تارة، وعدم النظر إلى نجاح التجارب الأخرى في هذا المضمار، تارة أخرى.

فإلى جانب فاتورة الأجور الضخمة التي تعتبر من بين الأكبر في العالم لا تزال الدولة تهيمن على قرابة 216 شركة في أكثر من 21 قطاعا تشمل الطاقة والتعدين والصناعة والخدمات كالنقل والاتصالات والكهرباء والماء وغيرها.

تونس إذا أرادت حقا تعبئة الموارد لإنقاذ اقتصادها من بوابة شركات القطاع العام فعليها الانفتاح فعليا على الاستثمار الخارجي، وعلى المسؤولين مراجعة تفكيرهم السلبي للتخلص من رُهاب الخصخصة

هذا الأمر خنق الموازنة العامة للدولة بالنظر إلى تراجع إيراداتها. وجراء انكماش الاقتصاد وصل حجم الخسائر السنوية للشركات في المتوسط إلى نحو 5 مليارات دينار (1.7 مليار دولار).

التقديرات الرسمية تشير إلى أن الإنفاق على الأجور في الكيانات الحكومية ارتفع بواقع 35 في المئة خلال العشرية الأخيرة، حتى أن البنك الدولي أكد مرارا أن تونس لا تملك رؤية شاملة حديثة وذات كفاءة حول وضعية شركات القطاع العام ولاسيما ذات الأهمية الهيكلية للاقتصاد والمالية العامة.

وبسبب الخمول في نشاط تلك الشركات، لعدة عوامل مركبة تشمل انعكاسات الأزمات السياسية وغياب التنافسية وسوء الحوكمة فضلا عن التهامها لنسبة مرتفعة من مخصصات الإنفاق العام، وجدت الدولة نفسها الآن في مشكلة كبيرة إن لم نقل وضعية كارثية، أدت إلى عجزها عن توفير الأموال لإدارتها على النحو الأمثل ما جعل الكثير من المؤسسات في حالة سيئة للغاية.

عند إلقاء نظرة فاحصة على تقرير وزارة المالية المنشور على منصتها الإلكترونية حول نشاط شركات القطاع العام في 2019 نجد أن أكبر 4 كيانات حكومية، وهي شركة الكهرباء والغاز (ستاغ) وشركة فوسفاط قفصة والمجمع الكيميائي التونسي والخطوط التونسية، تستنزف جزءا كبيرا من الموازنة لأنها لا تدر أرباحا وبسبب تخمة الموظفين. وهذا الأمر لم تُستثن منه أيضا شركة اتصالات تونس.

فمثلا، شركة الكهرباء وحدها أنفقت في ذلك العام على بند الرواتب حوالي 575 مليون دينار (نحو 200 مليون دولار) على 13.5 ألفا هو عدد موظفيها، أي أكثر من ضعف ما أنفقته الخطوط التونسية والبالغ 269 مليون دينار (93.5 مليون دولار) وشمل خمسة آلاف موظف.

ونظرا لتخمة أعداد الموظفين فيها لم تكن فوسفاط قفصة التي تشغل أكثر من 7 آلاف موظف بعيدة عن هذا الفلك، فقد أنفقت نحو 300 مليون دينار (103.4 مليون دولار) مع استمرار تراجع مداخيلها بسبب توقف الإنتاج في الحوض المنجمي، وهو نفس الأمر بالنسبة إلى المجمع الكيميائي الذي أنفق بدوره حوالي 295 مليون دينار (102.5 مليون دولار).

الوضع يبدو مواتيا لإحداث اختراق في جدار الأزمة المالية للشركات، ولذلك فإن على السلطات التحرك بواقعية لنفض الغبار عن القوانين التي تتيح إمكانية الخصخصة

وفي ظل اختناق الاقتصاد جراء الأزمة الصحية اليوم فإن الوضع يبدو مختلفا تماما وقد يكون مواتيا لإحداث اختراق في جدار الأزمة المالية للشركات، ولذلك فإن على السلطات التحرك بواقعية لنفض الغبار عن القوانين التي تتيح إمكانية الخصخصة، والاستفادة من العوائد السنوية التي ستدعم الخزينة العامة الفارغة.

لا شك أن تونس تمتلك ترسانة قانونية حديثة، في ما يتعلق بالحوكمة، بل إن مجموعة من القوانين تضاهي الأوروبية وخاصة فرنسا المرجع الرئيسي للقوانين التونسية، غير أنها ستظل بلا جدوى دون تفعيلها بجدية من طرف الشركات ومن مختلف الأطراف وخاصة السلطات التي يقع على عاتقها الحمل الأكبر لفض هذه المشكلة التي تعيق النمو.

فوبيا إدخال شريك محلي أو أجنبي في بعض شركات القطاع العام المتعثرة والتي تسيطر على صناع القرار والمتدخلين في السياسات الاقتصادية للدولة، وأولهم الاتحاد العام التونسي للشغل، بداعي الحفاظ على مقدرات الدولة وعدم التفريط فيها، لن توقف نزيف هذه الشركات، خاصة مع ظروف الجائحة التي سحبتها إلى مربع الخسائر بشكل أكبر مما كان متوقعا.

إذا أرادت تونس حقا تعبئة الموارد لإنقاذ اقتصادها من بوابة شركاتها فإن عليها الانفتاح فعليا على الاستثمار الخارجي لأن أول الحلول بالنسبة إلى المسؤولين لا يكمن في ملاحقة المتهربين ضريبيا وجمع الجباية أو البحث عن منفذ للحصول على خطوط ائتمان من المؤسسات المالية الدولية، بل عليهم مراجعة تفكيرهم السلبي للتخلص من رُهاب الخصخصة.