روبن هود.. أنبل الصعاليك وأشرس من احتضنته الغابات

هكذا هم الإنجليز، يصنعون شخصياتهم الروائية في الأدب الشعبي، يتناوبون عليها بالتطوير والإضافة إلى أن تصبح حقيقة بالتقادم ثم تخرج من دائرة الخيال لتسكن الواقع وتفعل فيه أحيانا. وهذا ما حدث مع روبن هود الشخصية التي نسجت من خيال وواقع وتحولت إلى أسطورة لا تموت.
آخر أخبار الفارس المغامر روبن هود أن غابة شيروود وسط إنجلترا، والتي كانت مرتعا لمغامرات هذا الفتى الطائش ورفاقه الخارجين عن القانون، قد أصبحت مرتعا للزوار العراة من أتباع مذهب الطبيعة، الأمر الذي أثار تذمر سكان تلك المنطقة المليئة بأشجار البلوط التي يبري من خشبها روبن هود سهامه، ويلوذ ويتستر بها حين كان يطارده شريف نوتنغهام في العصور الوسطى.
هو أكبر من كونه شخصية فلكلورية تتسم بالفروسية والشجاعة، وتسطو على الأغنياء من أجل إطعام الفقراء، ذلك أن هذه الصفات لا يكاد يخلو منها أي بطل شعبي متمرد على أعراف المجتمع في أي ثقافة من ثقافات العالم عبر التاريخ.
وهو أشد تعقيدا من هيئة محارب جمع حوله بعض الأتباع من الخارجين عن القانون، فلقد فعل قبله عروة بن الورد وطرفة بن العبد وتأبط شرا في الجزيرة العربية، وحتى سيرة علي الزيبق، نصير الضعفاء في فترة لاحقة.
فتى الغابات
لم يكن روبن هود فارسا مقداما داخل جيش نظامي كما هو الحال في بعض السير التقليدية، وإن كان قد مر بهذه التجربة مع الملك ريتشارد في الحملة الصليبية على عكا. ولم يكن شاعرا أو حكيما يبرر أفعاله بمقولات وتنظيرات، حتى وإن تناقلت الذاكرة الشعبية البعض منها، لكنه أعلن فرديته وتفرده ضمن حرب عصابات مستعملا القوس من بعيد، وليس السيف كسلاح مواجهة من قريب.
ولهذه الآلة التي برع فيها روبن هود (القوس)، وامتلك كل مهاراتها إلى حد الإعجاز، دلالات شتى؛ ذلك أنها تجعله متخفيا مثل قناص أو محارب يمارس الكر والفر ضمن معادلة غير متوازنة القوى ثم أن سهامه مصنوعة من خشب تلك الغابات التي حمته وحنّت عليه، لذلك طوّبته الأسطورة الشعبية بطلا تحت اسم “فتى الغابات” وهو الذي فارق الحياة مطعونا وقد اتكأ على شجرة.
هذا بالإضافة إلى القراءة الدينية التي رفعته إلى مقام المباركين لمشاركته في الحملة الصليبية، وهو أمر يجعله من “حراس المعبد” وفق التأويل الطوباوي. ويُقال إنّه دُفن في دير كيركليس بالقرب من مدينة ليدز غرب يوركشاير.

في السينما الحديثة كان روبن هود ولا يزال حاضرا بكثافة في العشرات من الأفلام متباينة الطرح والجودة
ما تقدم من سطور تحاول قراءة شخصية روبن هود، ضمن سياق دلالي يقترب من الفهم الأنثروبولوجي، لا يمنع من وضعه في سياقه التاريخي والتحقق من وجوده المادي بغية تخليصه من “الأسطرة” وتحريره من التعددية الروائية التي ناهزت المئات من القصص والأفلام والمسرحيات.
في هذا الصدد، وفي برنامج “ملفات محيرة” الذي بثته قناة “ناشيونال جيوغرافيك”، قيل إن المؤرخين بحثوا في ملفات قديمة ووجدوا عدة مراجع تشير إلى وجود روبن هود حقيقي، إذ أمضوا سنوات طويلة في التحقيق في ملفات تعود إلى القرون الوسطى، وأشبعوها تثبتا وتمحيصا.
هناك قصص قليلة تتحدث عن بطولات روبن هود، لكن أغنيتين روائيتين شائعتين تحملان دلائل تشير إلى هويته، واحدة من هاتين الأغنيتين الروائيتين هي الأغنية الشعبية “روبن هود والراهب” وعمرها أكثر من 500 سنة، إذ نُظمت في كنيسة القديسة مريم في وسط نوتنغهام.
ولا تقتصر الإشارة إلى روبن هود على حادثة تاريخية أو قصيدة شعبية تسرد أعماله البطولية بل ذُكر شخصه في أعمال أدبية مختلفة؛ فمنذ العام 1228 ظهر اسم روبن هود في العديد من المحاكم الإنجليزية على ألسنة القضاة.
ويرجع تاريخ أغلب هذه الإشارات إلى أواخر القرن الثالث عشر. وتوجد ثماني إشارات على الأقل لشخصية روبن هود في العديد من الضواحي الإنجليزية من بيركشاير جنوبا إلى يورك شمالا، كما تؤكد مصادر إنجليزية.
بطل بمواصفات قديس
وللمزيد من التقصي استخدم الاسم أيضا في عريضة قدمت للبرلمان الإنجليزي ليصف مجرما متجولا في عام 1439 من ويكفيلد في يوركشاير.
وأشار الكاتب الإنجليزي ويليام شكسبير إلى روبن هود في مسرحية “سيد فيرونا” في أواخر القرن السادس عشر، إذ بعد نفي فالانتاين من ميلان وإرساله بعيدا إلى الغابات قابله خارجون عن القانون وطلبوا منه أن يكون قائدهم ليصبحوا بذلك مثل عصابة روبن هود.
وبناء على ما تقدم فإن المؤكد أن روبن هود كان شخصية حقيقية كما تؤكد العديد من الوثائق، وعاش في القرن الثالث عشر، ويبدو أنه ملأ الدنيا وشغل الناس، لذلك نسجت حوله الحكايات حتى اقترب من الأسطورة، وبات من الصعب فرز الواقعي عن المتخيل.

زيد خلدون جميل: أمنية الفقير هي أن يهبه روبن هود ما يسرقه
هو لدى محبيه شخصية ملحمية، كرس حياته للدفاع عن الفقراء والمستضعفين إلى درجة أنه يسلب من الأغنياء ليعطيهم في تلك المرحلة التي تميزت بتغول الإقطاع المتحالف مع الكنيسة وانحدار وضع الفقراء إلى الدرك الأسفل، مما يجعل الحاجة ماسة إلى ظهور بطل شعبي بمواصفات روبن هود.
وهي مواصفات مشتهاة، كما هو الحال عند أي بطل شعبي: فروسية، براعة، شهامة، قوة وقدرة على التخفي والانتقام من أعدائه أي سوبرمان بلغة العصور الحديثة. وتُضاف إلى كل هذه ” التتبيلة” لفحة إيمان تقربه إلى أنصاف القديسين.
ومثل أي حركة ثورية تدعو للانسلاخ الطبقي بمفهومه الماركسي، أحاط روبن هود نفسه بمجموعته المسماة “ميري من” ومعناها الرجال المبتهجون، والمكونة من 140 شخصا معظمهم من “اليومن” (أبناء الطبقة المتوسطة) في غابات شيروود في محافظة نوتنغهامشاير بالقرب من مدينة نوتنغهام.
أما خصومه فيعتبرونه مجرد فتى غر وأهوج، حاقد على النبلاء والميسورين، غرر بمجموعة من السذج والمارقين، واستغلهم لأجل تحقيق مآربه الخاصة.
هذا ما يحدث دائما مع أي حركة ثورية تحاول تحقيق العدالة الاجتماعية عبر التاريخ، لكن إذا أمعنّا النظر في مفهوم السرقة من الثري والعطاء للفقـــــير نجد أنه يخفي جانبا لا يلاحظه الكثيرون، وفق رأي الباحث والكاتب العراقي زيد خلدون جميل الذي قد يبدو غريبا واستفزازيا في نظر الثوريين؛ إذ يرى أن أمنية الفقير هي أن يهبه روبن هود ما يسرقه دون أن يتحمل الفقير نفسه عواقب عملية السرقة على أساس أنه لم يقم بها، بينما يتحمل روبن هود مسؤولية السرقة كاملة دون أن يستفيد منها بأي شكل. وقد يمـــثل هذا أمنية خيالــــية للكثير من الفقراء في إنجلترا القديمة والبلدان جميعا.
ويرى الباحث أن هذا المفهوم يتضمن أيضا عدم وجود أي احترام لقدسية الممتلكات، وأن الثري لا يستحق ما يملكه حتى إن كان إنسانا شريفا، فذنبه الحقيقي كونه ثريا، ويعقب بقوله “وإذا تم تحقيق هذا المفهوم على أرض الواقع، فلن تظهر حضارة في التاريخ البشري”.
مادة سينمائية مغرية

تعددت القراءات والتأويلات والإحالات إزاء شخصية روبن هود في العصور الحديثة، وخصوصا في الاقتباسات الروائية والسينمائية والإعدادات المسرحية، كونها تفتقر إلى كاتب بعينه وأمست ملكا مشاعا يأخذها كل إلى غايته ومبتغاه.
وزاد عن كل ذلك تبدل المفاهيم وتغير الرؤى إزاء حركات التمرد التي كانت في القديم جرائم ترتكب في حق المجتمع ومقدساته ثم أصبحت في التاريخ الحديث حركات تحرر مشروعة.
وتكيفت شخصية روبن هود مع كل مرحلة من مراحل تاريخ إنجلترا بكل أطيافها الفكرية والاجتماعية، فانتقلت من فترة الإقطاع إلى الكلاسيكية الأولى، حيث قام الكاتب المسرحي أنتوني مَندَي (1560 – 1633) بكتابة مسرحيتين عن روبن هود، جاعلا إياه من طبقة النبلاء. ويمثل هذا تغيرا مهما في المجتمع الإنجليزي، حيث إنه يدل على أن الجمهور أخذ يعجب بالقصص التي يكون بطلها من النبلاء، ما يعني أن تغيرا كبيرا قد حدث لنظرة العامة تجاه الطبقة الحاكمة.
واستمر تناول هذا الشخص المتمرد في المرحلة الرومانسية من خلال علاقته بحبيبته “ماريان” ثم الواقعية عبر دفاعه عن المستضعفين وتحريضهم على عدم دفع الضرائب، ووصولا حتى إلى أصدقاء البيئة عبر تمجيدهم للون الأخضر الذي ميز لباس روبن هود. وبقي هذا التعلق برمزية روبن هود إلى يومنا هذا كما أشرنا في بداية السطور حول الخلاف الذي أثير بين العراة أنصار مذهب الطبيعة وسكان غابة شيروود، المعروفة بحدائق روبن هود، وسط إنجلترا منذ أيام قليلة.
فروسية وبراعة وشهامة وقوة وقدرة على التخفي والانتقام من أعدائه، أي سوبرمان بلغة العصر الحديث
ويجمع النقاد والدارسون على أن القراءة الأهم لمتن حكاية روبن هود في جملة الأعمال الفنية التي تناولته حصلت عام 1819 عندما قام الكاتب الاسكتلندي وولتر سكوت (1771 – 1832) بكتابة قصة “إيفانهو” التي ضمت الملك “ريتشارد قلب الأسد” (النورماندي) و”روبن هود” (الأنغلوسكسوني) والشخصية الجديدة “إيفانهو” (الأنغلوسكسوني) حيث يشترك الثلاثة معا في تخليص الشعب الإنجليزي من الظلم ويدافعون عن إنجلترا، وأصبح الثلاثة رمزا لوحدة الشعب. وقد لاقت هذه القصة رواجا هائلا وحولت روبن هود والملك ريتشارد قلب الأسد إلى رمزين وطنيين مهميْن في التراث والخيال الإنجليزيين.
ووجدت السينما، منذ كلاسيكياتها الأولى، في شخصية روبن هود مادة مغرية للتشويق والإثارة على شاكلة “مغامرات روبن هود” الذي أنتج عام 1938 بميزانية ضخمة ونال أوسكار أحسن موسيقى تصويرية وكان من إخراج مارتن كورتيز.
وفي السينما الحديثة كان روبن هود ولا يزال حاضرا بكثافة في العشرات من الأفلام متباينة الطرح والجودة وزاوية النظر، ففي عام 2010 ظهر “روبن هود” كفيلم أميركي يحكي قصة الأسطورة رامي السهام البارع الذي شارك في الحروب الصليبية خلال فترة حكم ريتشارد الأول ملك إنجلترا، الفيلم من إخراج ريدلي سكوت وبطولة الممثل راسل كرو بدور روبن هود، وبدور ماريان لوكسلي الفنانة كيت بلانشيت وبدور السير والتر لوكسلي ماكس فون سايدون.
وفي عام 2018 أنتج فيلم “روبن هود” بنسخة حديثة، حيث تدور أحداث الفيلم حول التمرّد الذي يقوم به روبن مع قائده المغاربي ضد العمدة الإنجليزيّ الفاسد، وقبل ذلك كان روبن يعيش حياة سعيدة مع حبيبته ماريان ولكن تم تجنيده من قبل عمدة نوتنغهام الفاسد في الحملة الصليبيّة الثالثة ضد المسلمين، غير أنّه أصيب بالبؤس أثناء الحرب بسبب عدم مقدرته على منع قائده من إعدام صبي مراهق الأمر الذي دفع قائده إلى إعادته إلى نوتنغهام بعد قضائه أربع سنوات بعيدًا عنها.
الفيلم من إخراج أوتو باثورست وكتابة السيناريو لبن تشاندلر وديفيد جيمس كيلي، وشارك في التمثيل العديد من النّجوم المميزين مثل تارون إيجرتون وجيمي فوكس وبن مندلسون وتيم مينشن وجيمي دورنان وإيف هيوسون.
أما في الأعمال المقدمة للأطفال فيكاد روبن هود يحتل الصدارة في جملة ما أنتجته من كلاسيكيات، بالإضافة إلى أغنيته التي يحفظها جميع الأطفال. وقد طوعه المعدون ليلائم جملة القيم التربوية التي على شركات الإنتاج مراعاتها، وكذلك في المقاطع التي اتسمت ببعض القسوة في الرواية الكلاسيكية، حيث نجد في النهاية مثلا هذا المقطع الذي يقول “هذا الرجل ذو اللون الأخضر لم يكن سوى روبن هود نفسه. وقبل أن يعطي القائد الأوامر للقبض عليه، قفز روبن هود من فوق الجدران لركوب حصانه الأبيض والهروب معه بعد أن لقن القائد الأحمق درسا لن ينساه”.
استعارات وإسقاطات

بابلو إسكوبار: الحياة قذرة.. فلا تكن مقتولًا وتطلب الشفقة
ومنح روبن هود اسمه لاستعارات شخصيات شتى في عالم السياسة والمعارك العسكرية، خصوصا في ما يتعلق بالرماية ودقة التصويب كالثائر الموريتاني ضد الاستعمار الفرنسي علي بن عمر، الذي لقبه الفرنسيون أنفسهم في ثلاثينات القرن الماضي بـ”روبن هود بلاد الشنقيط”.
روبن هود شخصية اهتم بها الأدب المقارن، وأوجد لها مثيلاتها في الثقافات العالمية، لكنها تميزت بالتجدد والتنوع، ليس في طبيعتها الثابتة وإنما في القراءات التي تناوبت عليها والرؤى التي تناولتها، مما أكسبها الخلود حتى في أشد تصنيفها كشخصية عدائية، وهو ما يذكر بقول بابلو إسكوبار، وهو قائد منظمة إجرامية وسياسي كولومبي أحرق نصف أمواله لتدفئة ابنته “الحياة قذرة، فلا تكن مقتولًا وتطلب الشفقة، بل كُنْ قاتلًا واطلب المغفرة”.
وفي المقابل فإن الصعاليك العرب مثلا ظلوا حبيسي تلك النظرة المسطحة والثابتة فلم تقترب منها الدراما رغم غناها النفسي. يكفي أنهم كانوا من الشعراء.
كسر السائد والمروج والمتوقع في تناول شخصية الصعلوك هو الذي جعل معاوية بن أبي سفيان يقول في عروة الصعاليك “لو كان لعروة بن الورد ولد لأحببت أن أتزوج إليهم”.
وقال من بعده حكيم بني أمية عبدالملك بن مروان في ذات الشخصية، بحسب ما سمع عنه في عصر ما قبل الإسلام، “من قال إن حاتمًا أسمحُ الناس فقد ظلم عُروة بن الورد”.