دار الإفتاء المصرية تراكم الفشل بتدخلها المعلن في السياسة

القاهرة - يعكس دفاع دار الإفتاء المصرية المعلن و”الفج” عن النظام فشلا تنظر إليه أوساط مصرية بعين الريبة خشية تأثيراته العكسية على الطرفين، باعتبار أنها تطوّع الدين لخدمة السياسة، وهو الأمر الذي انتفض عليه المصريون ضد تيار الإسلام السياسي بقيادة الرئيس الراحل محمد مرسي في 2013.
ولم تهدأ عاصفة الجدل حول الفتوى التي أصدرها شوقي علام مفتي مصر، الجمعة، بشأن الضرائب التي تفرضها الحكومة على المواطنين، بحكم أنها جاءت في ذروة غضب الشارع على مجلس النواب عقب إقراره دفعة جديدة من الضرائب على السيارات وبعض الخدمات ومستخرجات الأوراق الرسمية ومستلزمات النظافة.
ودعا مفتي مصر في لقاء تلفزيوني المصريين إلى الالتزام بدفع الضرائب التي يقرها ولي الأمر (الحاكم)، لأن “دفعها من أنواع التعبد والتقرب إلى الله الذي يفرض على عباده طاعة ولي الأمر في الحق والخير والبناء عبر طاعة القانون، ونحن مأمورون بالاستجابة لما يقرره ولا يجوز التهرب من الضرائب أو دفع رشوة لإنقاص قيمتها”.
واستقبلت شريحة كبيرة من المصريين فتوى “التعبد إلى الله بدفع الضرائب” بسخرية معتادة، وتقمص بعضهم دور رجل الدين الذي سيفتي مستقبلا بأن دافع الضريبة العقارية كمن صام الدهر كله، ومن دفع ضرائب السيارة بانتظام كمن أقام الليل، ومن الْتَزم بدفع فواتير المياه والكهرباء كمن أدى العمرة في شهر رمضان.
وجاء الغضب من الفتوى لأنها تحمل رسائل سياسية وتُشرْعن للحكومة المضي قدما في فرض المزيد من الضرائب، ولا يجوز لأحد الاعتراض أو التذمر، لأن المؤسسة الدينية منحت صانع القرار الغطاء الشرعي الذي يبيح له اللجوء إلى جيوب الناس.
وبلغ دفاع المفتي عن الضرائب حد التحدث بلسان الحكومة عندما قال “يجوز فرضها لتغطية النفقات العامة والحاجات اللازمة للدولة، لأن ولي الأمر هو القائم على مصالح الأمة التي تستلزم نفقات تحتاج إلى وجود مورد ثابت بعدما كثُرت مهام الدولة واتسعت مرافقها، ولا مانع من سد عجز الموازنة بالضرائب”.
وذهب معارضون للفتوى إلى أن علام دافع عن الحكومة في فرضها المزيد من الضرائب واللجوء إلى جيوب الناس بعد قرار الرئيس عبدالفتاح السيسي (24 فبراير) بالتجديد له في منصبه، رغم بلوغه سن المعاش، في تلميح إلى أنه يردّ الجميل.
واستبعدت دوائر سياسية وقوف الحكومة صراحة وراء صدور الفتوى، رغم أنها المستفيد الأول منها، لكن المؤسسات الدينية اعتادت التبرع بالدفاع عن القرارات والسياسات التي تغضب شريحة من الناس، حتى تُظهِر الولاء للرئيس وتَظهَر أمامه شريكةً في مواجهة التحديات التي تواجه الدولة.
وقال جهاد عودة، أستاذ العلوم السياسية، لـ”العرب” إن تبرير المؤسسة الدينية للقرارات الحكومية يرتقي إلى درجة التهور السياسي، خاصة عندما يكون ذلك بطريقة فجة وبعيدة عن الحنكة والعقلانية”.
وذكر أن الشارع اعتاد على الفتاوى التي تتناغم مع توجهات الدولة، لكنها كانت متزنة وغير مباشرة، إلى أن صارت هناك مجازفة بالخوض في مسائل مدنية، وهذا خطر جسيم.
وتكمن المعضلة في أن غضب الناس على الحكومة من الفتاوى التي تحمل أبعادا سياسية واقتصادية يتجاوز تذمرهم من المؤسسة الدينية، ولدى هؤلاء شعور متصاعد بأنها (أي الحكومة) تسعى لترهيب الناس من الوقوف في وجه قراراتها من خلال توظيف جهات الفتوى لإصدار آراء تضفي شرعية على سياساتها، وهو ما ينطوي على تشابه مع خطاب التيارات المتشددة الذي يستخدم هذا النوع من التبرير.
وأوضح سعيد محمد، وهو باحث قانوني في إحدى الوزارات الخدمية، لـ”العرب” أن مساندة المؤسسة الدينية للحكومة في علاقاتها بالناس تزيد تمردهم على أي قرارات يتم تسويقها بطريقة “قال الله، وقال الرسول”، لأن ذلك يعني لجوء الحكومة إلى آخر الحلول (الحل الديني) لتبييض وجهها، ويمهّد لفقدان الثقة في جهة الفتوى.
وأضاف سعيد، وهو من المؤيدين للنظام المصري، “عندما يتم ربط علاقة الإنسان بربه بمدى التزامه بدفع الضرائب فهذا متاجرة صريحة بالدين، وللأسف يتم تكرار نفس الأسلوب الذي كانت تستخدمه جماعة الإخوان عندما حكمت البلاد عام 2012، وأسقطها الشارع بعدما تاجرت بالدين لتحقيق مصالحها السياسية”.
ويرى مراقبون أن الحكومة ليست بحاجة إلى إقناع الشارع بسياساتها من خلال الاحتماء بالدين، لأن الأغلبية لا تمانع دعم الدولة في مواجهة التحديات المتراكمة، لكن شريطة أن يكون ذلك بطريقة عقلانية بعيدة عن الجباية ولغة الترهيب أو استسهال اللجوء إلى استقطاع أجزاء من أرزاق الناس رغم الضغوط المعيشية الصعبة والشح المالي المتزايد.
هذه الفتاوى خدمة مجانية لجماعات متشددة تسعى إلى ضرب ثقة الناس في المؤسسة الدينية لتحل مكانها
ويشير هؤلاء إلى أن المصريين الذين دفعوا رئيس الدولة قبل أيام إلى تعطيل العمل بقانون الشهر العقاري ووقف دفع آلاف الجنيهات نظير تسجيل منازلهم يصعب عليهم الانصياع لرأي يُشرْعن فرض المزيد من الضرائب ويدافع عنها، لأن الذين تمردوا على الحكومة لن يجدوا صعوبة في التمرد على فتوى تسلبهم أرزاقهم.
وتكمن مشكلة البعض مع المؤسسة الدينية في أنها تحاول أحيانا الظهور بدور الحزب السياسي للدولة، سواء طُلب منها القيام بذلك أم لم يُطلب، ويظهر ذلك في فتاوى دافعت عن المشروعات القومية وطالبت الناس بدعم الحكومة في عملية التنمية، واستنكرت غضب بعض الشرائح الاجتماعية من الاهتمام بملفات على حساب أخرى، وقالت هذه رؤية الحاكم.
وتحاول الفتاوى السياسية تعبئة الشارع خلف الحكومة والنظام برمته في توقيتات خاطئة، ما يجعلها تواجَه بامتعاض شعبي فتخسر المؤسسة الدينية والجهة التي تدعمها، ما يجعل الطرفيْن في مرمى نيران منصات التواصل الاجتماعي التي تضم شرائح من كل الفئات وعوّضت غياب المعارضة والأحزاب في الشارع.
وتقدم هذه الفتاوى خدمة مجانية لجماعات متشددة تسعى لضرب ثقة الناس في المؤسسة الدينية كي تحل مكانها وتكون هي مصدر الفتوى الذي لا يتماهى أصحابه مع النظام، ولا يخدمون أهدافه المختلفة.
وأكد جهاد عودة أن انشغال المؤسسات الدينية بالفتاوى السياسية يعطي انطباعات سلبية عن هذه المؤسسات يستثمرها شيوخ السلفية وجماعات الإسلام السياسي عموما، وبدلا من أن تقصيهم الحكومة من المشهد كليّا “تُمَذْهِبُ” لهم السياسة.