خريطة جديدة للبرامج السياسية لاستعادة الجمهور المصري

أفردت غالبية القنوات المصرية مساحات واسعة للبرامج السياسية، وقلصت الفنية والاجتماعية والترفيهية التي كانت طاغية على الخطة البرامجية، لكن المشكلة أن الوجوه الإعلامية المتاحة غير كافية لاستقطاب شرائح جديدة من الجمهور.
القاهرة - أجبرت التطورات الإقليمية غالبية البرامج التلفزيونية في مصر على تسييس خطابها الموجه للجمهور لمواكبة الأحداث المتسارعة على الساحة ومحاولة استثمار الفرصة في استعادة الشعبية، بعد فترة من اهتمام القنوات بتركيز خارطتها البرامجية على قضايا اجتماعية وفنية وترفيهية بذريعة تسلية المشاهدين أو إبعادهم عن السياسة.
ولجأت بعض الفضائيات إلى استحضار وجوه إعلامية تم تغييبها عن المشهد لفترة طويلة، للاستفادة من خبراتها في مخاطبة المشاهدين بمعلومات وتحليلات وكواليس ما يدور في المطبخ السياسي، أو على الأقل تتمكن من تقديمها بصورة منطقية.
وتعاقدت فضائية المحور مع الإعلامي أسامة كمال، وكان يقدم البرنامج الحواري الرئيسي على فضائية “دي.إم.سي” قبل أن يتم استبعاده لأسباب غير معلنة، وعاد الإعلامي محمد الباز الذي كان يقدم برنامج توك شو على قناة “المحور”، ليظهر على شاشة قناة “النهار” ويتولى إدارة وتطوير الخطاب السياسي للمحطة.
ويمكن ملاحظة التغيير في اهتمام البرامج ذاتها بتوظيف التعقيدات الراهنة في المنطقة كي يكون لها حضور عند المشاهد، بدلا من أن يذهب إلى منصات خارجية تابعة لكل من قطر وتركيا، ولها أجندات تصب في مصلحة جماعة الإخوان، وتناهض مصالح الدولة المصرية، وأصبح كل برنامج يبحث لنفسه عن جماهيرية تمكنه من المنافسة.
ووضعت منابر عدة لنفسها سياسة إعلامية دون انتظار تحرك الهيئات المعنية للقيام بهذه المهمة، فهناك قنوات أفردت مساحات واسعة للأجندة الإخبارية الإقليمية، وتقليص البرامج الفنية والاجتماعية بحكم انشغال الجمهور بمتابعة ملفات حيوية لها علاقة بمصير الدولة وترتبط بتهديدات خارجية مصيرية.
وأمام التحول اللافت على صعيد تغيير المحتوى وتدوير الوجوه، يصعب توقع إمكانية أن يكون ذلك مقدمة لاستعادة الإعلام المصري جماهيريته المفقودة، لأسباب كثيرة ترتبط بمضمون الخطاب الموجه للرأي العام، والحدود المسموح بها لمقدمي البرامج في الحركة والتطرق لموضوعات تمس الأمن القومي.
وحدد مجلس تنظيم الإعلام قبل أيام الإطار الذي يدور فيه أي حديث يتعلق بأهم ملفات يتابعها الجمهور المصري (سد النهضة وأزمة ليبيا وكورونا)، وأصبحت كل القنوات ملزمة بتناول هذه القضايا من خلال الالتزام بإذاعة البيانات الرسمية والتقيد بالرؤية التي تحملها.
وهدد المجلس، قبل تغيير رئيسه مكرم محمد أحمد الأسبوع الماضي، بمحاسبة أي فضائية تناقش هذه الملفات بعيدا عن الرواية الحكومية، ما يقيد عمل البرامج إذا قررت القيام بمهمة أكبر وأشمل من مجرد الترويج للخطاب الرسمي، ويقيد أفواه المذيعين لو أرادوا التعامل بمهنية تضمن لمنابرهم حضورا في الشارع.
ويقول خبراء إن الوجوه الإعلامية المتاحة غير كافية لاستقطاب شرائح جديدة من الجمهور، فهي وإن كان عملها يحاط بجملة من الخطوط الحمراء التي تتمسك بها الهيئات الإعلامية، فعندما تحاول التأقلم مع هذا الواقع تصطدم بنقص حاد في المعلومات التي تمكنها من تجاوز المحظورات.
وأكد إبراهيم الصياد رئيس قطاع الأخبار بالتلفزيون المصري سابقا أن أي خطة برامجية يفترض أن تكون لها رؤية بحيث يتضح الهدف منها، وبالنظر إلى المستجدات الحاصلة على الساحة لا توجد أهداف حقيقية، وعندما قررت بعض القنوات أن تكون لها سياسة إعلامية أصبحت هناك متاهة من كثرة السياسات الموجودة.
الجمهور لا يريد مشاهدة محاضرة بقدر ما يبحث عن التحليل والتوقعات المنتظرة للقرارات الحكومية وردود الفعل
وأضاف لـ”العرب” أن أزمة بعض الوجوه الإعلامية أنها لم تستوعب بعد الرسالة السياسية التي تريد الحكومة توجيهها للجمهور، والأخطر أن هناك برامج عندما قررت تغيير خارطتها لتكون منبرا جادا اختصرت ذلك في أن يقوم المذيع بدور المحلل والمحاضر، وهذه ظاهرة مثيرة للريبة على الشاشات المصرية.
ويشير مراقبون إلى أن قمة الإخفاق الإعلامي عندما تعتقد القناة أن استعانتها بمذيع له رؤية سياسية ليقدم برنامجا يركز على ملفات ذات أبعاد حيوية تكفي لمسايرة الأحداث الساخنة، فليس مطلوبا من مقدم البرنامج أن يتحدث لأكثر من ساعتين لتقييم وتحليل الموقف، في حين يتم تجاهل الاستعانة بمتخصصين لديهم خبرة في الملفات المختلفة.
ولذلك يعد اقتصار التطوير على تغيير الخطاب الإعلامي من اجتماعي ترفيهي إلى سياسي وأمني، خطأ ويتطلب الأمر أفقا مناسبا وثقافة واسعة من مقدمي البرامج، لأن الجمهور لا يريد مشاهدة محاضرة على الهواء بقدر ما يبحث عن التحليل الاستراتيجي والتوقعات المنتظرة للقرارات الحكومية وردود فعل كل الأطراف.
صحيح أن متابعة الأحداث الإقليمية مطلوبة في إعلام أي دولة كي تجد الحكومة ظهيرا يدعم خطواتها، لكن تظل هناك إشكالية معقدة لدى الجهاز الإعلامي في مصر، فالوجوه التي تختفي تعود مع تغيير المنبر الذي تظهر من خلاله، وبعض هؤلاء لهم سوابق غير إيجابية مع شريحة من الجمهور، أو على الأقل امتلكوا خطابا مرفوضا في أحيان كثيرة بحكم سياسة القناة التي عملوا فيها.
ويعوّل الجمهور على التغييرات التي حدثت في تركيبة الهيئات الإعلامية أخيرا، لتكون هناك خارطة برامجية تلبي رغبات الشارع في إعلامه المحلي، ويتم إلغاء الخطوط الحمراء وإتاحة الفرصة لتعدد الاختلاف في وجهات النظر كبداية لاستعادة المصداقية والتأثير، لأن تغيير وجهة القناة ليس كافيا في ظل تشتت المضمون والهدف.
وقال إيهاب البدوي، خبير تطوير المحتوى البرامجي، إن مشكلة الإعلام المصري تكمن في تشعب المناصب للفرد الواحد، فقد تجد المذيع هو المسؤول عن التطوير في المحطة، وأحيانا يكون هناك شخص لم يظهر من قبل على الشاشة ويتم له إسناد مهمة تحسين الأداء، ما يعني أن أيّ تطوير في الخارطة دون الاستعانة بكوادر متخصصة لن يؤدي إلى مردودات حقيقية في المستقبل.
ولفت في تصريح لـ”العرب” إلى أن هناك معضلة أخرى ترتبط بأن بعض القنوات لجأت إلى تطوير محتواها البرامجي لتساير موجة رد الفعل على الإعلام المناهض للدولة المصرية، لا أن تُبادر بالفعل، وباعتبار أن هناك حربا إعلامية دائرة مرتبطة بالتطورات الإقليمية، فأصبح حتميا تغيير طريقة التعامل، إذ لا يمكن أن تكون استراتيجية الكثير من المنابر قاصرة على الشتائم والصراخ.
وشدد على أن الإعلام في مصر يواجه أزمة معقدة ترتبط بسد النهضة، لكنه مازال يردد الروايات الرسمية ولا يمد بصره المهني لأبعد من ذلك، كما ينقل للمشاهد معلومات عن الثقافة الإثيوبية وكيف ينظر شعبها إلى المصريين، ولماذا يشعرون بالكراهية تجاهنا دون حديث عن البدائل.
وطالب خبراء بضرورة أن يكون هناك تطوير في المحتوى البرامجي ينبع من رؤية إعلامية شاملة تحدد أهداف الفترة المقبلة، ففي ظل تشتت الاستراتيجيات بين القنوات وغلبة المصالح الخاصة على السياسة التحريرية المتبعة وخشية أغلب البرامج من التطرق إلى بعض الملفات، سوف يظل الإعلام مكبلا ولن يستطيع المنافسة.