خالد الجندي المفتي الخاص للحكومة المصرية وازدواجية الخطاب

أسلوب الأزهري خالد الجندي وتصوراته في تجديد الخطاب الديني يعطي فرصة للتيارات المتشددة أن تتسلل بشكل أكبر إلى المجتمع.
السبت 2021/01/30
خالد الجندي أزهري مثير للجدل يناكف المؤسسات الدينية

لجأ نظام الرئيس المصري الراحل حسني مبارك إلى الاعتماد على مجموعة من الدعاة الجدد، يمتلكون حضورا ولغة منمقة عصرية وجذابة ليكونوا في صدارة المشهد أملا في مواجهة التيارات الدينية المتأسلمة، لكنهم استثمروا الفرصة لتوظيف علاقاتهم ومهاراتهم لتحقيق أغراض شخصية من وراء الدين مع التخديم على مصالح السلطة.

من بين هؤلاء كان خالد الجندي الذي استطاع تحقيق شهرة واسعة في بدايات ظهوره كخطيب بأحد مساجد القاهرة، مستثمرا دهاءه ولسانه وعداءه الظاهر للقوى الإسلامية، وسُمح له بإطلاق مشروعه الديني الذي حمل اسم “الهاتف الإسلامي” بحيث يقوم بالرد على فتاوى الناس تليفونيا، مقابل مبلغ مالي، وكان ذلك باكورة استثمار الدين في ”البيزنس“.

الجندي يحظى بشهرة واسعة تعود إلى بدايات ظهوره كخطيب بأحد مساجد القاهرة، حين استثمر دهاءه ولسانه وعداءه الظاهر للقوى الإسلامية، فسُمح له بإطلاق مشروعه الديني الذي حمل اسم "الهاتف الإسلامي"

فطن مبكرا أن تقربه من النظام لن يكون مجانيا، وأن عليه تقديم فروض الولاء حتى يكون ضمن حاشية السلطة الدينية، لدرجة أنه اعتبر مبارك “زعيمه الوحيد” ومعارضيه هم المتآمرون، وظل يدافع عنه في وسائل الإعلام خلال الأيام الأولى لثورة يناير 2011، ومع شعوره بخطورة الموقف واقتراب رحيل مبارك عن الحكم، انقلب عليه وطالب بعزله، حقنا لدماء الثوار، رغم إدلائه بتصريحات دعم فيها مبارك قبل سقوط نظامه، واصفا إياه بـ”أب كل المصريين، والرجل الذي يهتم بالضعفاء والمساكين والمرضى”، لكنه بعد أيام قليلة من ثورة يناير، نفى ما نُسب إليه، واتهم الذين يرددون هذا الكلام بأنهم ينتمون لتيارات متشددة ومنحرفة تريد إقصاءه من المشهد الدعوي ليكون المجال مفتوحا أمامها دون منافسين يطعنون في أفكارهم.

حضور إعلامي مستمر

تخليه المفاجئ عن الزي الأزهري يبرره الجندي بأنه يريد ارتداء ملابس مختلفة لتفريغ الذهنية الإسلامية من الارتباط بزي محدد
تخليه المفاجئ عن الزي الأزهري يبرره الجندي بأنه يريد ارتداء ملابس مختلفة لتفريغ الذهنية الإسلامية من الارتباط بزي محدد

لم يغب الجندي عن المشهد كثيرا، بل صار أكثر شهرة من الماضي، والتحق للعمل كمقدم برامج في أكثر من قناة فضائية ومحطة إذاعية قبل أن يطلق قناة “أزهري” بتمويل من بعض أصدقائه رجال الأعمال، وعاد إلى نهجه بالتقرب من السلطة بالهجوم على الإسلاميين مع بدايات دخولهم السياسة بعد ثورة يناير، وقرر دعم النظام المصري، سواء العسكري الذي تولى المسؤولية بعد رحيل مبارك، أو المستشار عدلي منصور الذي كان رئيسا للبلاد عقب سقوط نظام الإخوان عام 2013.

معضلة الجندي أنه لم يدُرك ارتفاع منسوب الوعي عند المجتمع، وبإمكان أغلب أفراده التمييز بين أصحاب المبادئ والأهداف النبيلة، ومن يتلونون على كل شكل لإثبات الولاء والتقرب من السلطة، لكنه أخطأ التقدير وتمادى في اتخاذ قرارات جعلته في مرمى نيران الشارع، حتى آراءه المناهضة للمتشددين صار البعض يشكك فيها.

اعتاد الجندي أن يستخدم لغة السب والهجوم اللفظي على من يعارضه أو يظهره على حقيقته كداعية سياسي وليس أزهريا معتدلا

صحيح أنه عالم أزهري وعضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بوزارة الأوقاف، ودائما ما تكون له فتاوى مغايرة لرؤى تيارات ورجال دين متطرفين، لكنه لا يصنف ضمن الدعاة المؤثرين في توجهات الناس، حتى لو كانت رؤيته متحررة ومنفتحة وتتناسب مع الشريحة الأكبر في المجتمع، من الشباب الذين يعادون الوصاية الدينية.

تحسب للجندي قدرته على إقناع دوائر عديدة بأنه شخصية دينية مطلوب وجودها على الساحة لمواجهة التشدد والقيام بدور فاعل وقوي في ملف تجديد الخطاب الديني، فتراه ينتقد المؤسسات الدينية الرسمية، ويفتي عكس توجهاتها، ويفتح ملفات شائكة قد يكون التطرق إليها ذا دوافع سياسية أكثر منها دينية.

يصعب أن يكون هناك موقف للأزهر يناقض وجهة نظر الحكومة إلا ويقف الجندي في صفوف المؤيدين لها، وتشعر من مبرراته أنه يؤدي مهمة بعينها، ويكفي أن ظهوره على الناس يكون من خلال فضائية “دي.إم.سي” ببرنامج ديني هو الأشهر في مصر حاليا (لعلهم يفقهون)، والقناة مملوكة قريبة من الحكومة، وأصبح أشبه بمن يمثل رأي الحكومة دينيا في الإعلام.

وإذا كانت مصداقية أغلب الإعلاميين في مصر على المحك لما عرف عنهم من موالاة للحكومة على طول الخط، فالجندي لا يختلف عنهم كثيرا، ويسير على نفس النهج تقريبا حتى أن البعض يصفونه بـ”مفتي الحكومة”، من شدة فتاواه الغريبة وغير المنطقية التي تضفي شرعية على الكثير من توجهات وقرارات الحكومة، سواء أكانت اجتماعية أو اقتصادية.

الانتماء من أركان الإسلام

الجندي تحسب له قدرته على إقناع دوائر عديدة بأنه شخصية دينية مطلوب وجودها على الساحة لمواجهة التشدد وتجديد الخطاب الديني
الجندي تحسب له قدرته على إقناع دوائر عديدة بأنه شخصية دينية مطلوب وجودها على الساحة لمواجهة التشدد

أغرب فتاوى الجندي التي تسببت في إثارة موجة من الجدل ما قاله عن أن أركان الإسلام ليست خمسة فقط، وأضاف إليها “الانتماء الوطني”، وهي الفتوى التي اعتبرها كثيرون سياسية بحتة، لأنها تحمل معاني وإشارات توحي بأن الوطنية ودعم النظام القائم ركنا أساسيا في الإسلام، ومن يعارضون ذلك إيمانهم ليس مكتملا.

خطورة الدعاة الجدد من عينة الجندي، أن تصوراتهم الدينية تصبغ على بعض النواحي السياسية، ما يعطي فرصة للتيارات المتشددة أن تتسلل بشكل أكبر إلى المجتمع، لتطعن في توجهات من يصفون أنفسهم بالمعتدلين والمنفتحين ودعاة التجديد، كما أنهم غالبا ما يخسرون معاركهم مع المؤسسات الدينية التي تجيد التشكيك في مواقف المختلفين معها.

من أزمات الجندي أن أسلوبه في تجديد الخطاب الديني يعتمد على إثارة الجدل، ليس من باب إحداث حالة من النقاش الفكري للوصول إلى نقطة اتفاق، بل بغرض إثبات أنه الأكثر قدرة على حسم الجدل المرتبط بالقضايا المسكوت عنها، فتراه يتحدث عن عدم وجود جنس في الجنة، رغم أن القضية ليست دنيوية، لكنها سوف تجلب المزيد من الشد والجذب مع المؤسسات الدينية ليظهر بصورة الداعية المشاكس لجهات الفتوى التي ترهق الحكومة أحيانا.

يميل إلى تطبيق استراتيجية التجديد بالصدمة، بحيث لا تكون هناك درجات في مستوى إقناع الناس حسب مستوى تعليمهم وفكرهم وثقافتهم، كأن يتحدث عن تطابق أهمية الفن وخطبة الجمعة، باعتبار أن الممثل وإمام المسجد كلاهما يؤدي رسالة، وهو الرأي الذي كشفت عنه المخرجة السينمائية إيناس الدغيدي، عندما قالت إن الجندي رفض عرضا منها بالتمثيل، بدعوى أن الممثل والإمام والداعية كلاهما يؤدي نفس الغرض تقريبا.

الحجاب والفنانات

يتحدث عن كونه شخصية منفتحة، مع أنه اعتاد كيل الاتهامات لغير المحجبات والتشكيك في علاقتهن بالله، رغم أن الأزهر نفسه سبق أن تطرق إلى قضية الحجاب، وقال “إن الكذب أكثر وزرا من ترك الحجاب”، وهناك علماء آخرون شككوا في مشروعيته الدينية، وقالوا إن الحجاب عادة وليس فرضا وتركه ليس معصية.

معضلة الجندي أنه لم يدُرك ارتفاع منسوب الوعي عند المجتمع، وبإمكان أغلب أفراده التمييز بين أصحاب المبادئ والأهداف النبيلة، ومن يتلونون على كل شكل لإثبات الولاء والتقرب من السلطة

ولأن البعض يصنفه من فئة الدعاة المهووسين بالشهرة، ولديهم شعف الصدام مع أصحاب النجومية، اعتاد الدخول في مشادات كلامية مع فنانين لأسباب يُفترض أنها بعيدة عن تدخلات رجال الدين، بينهم الممثلة والراقصة سما المصري التي قال إن دعاءها لا يُستجاب بسبب طريقة ملابسها، والراقصة دينا التي تنمر عليها بدعوى أنه يرفض التعري والتمايل الجسدي، مع أنه دائما ما يتحدث عن نفسه كداعية يؤمن بالتحرر وعدم التدخل في علاقة الناس بربهم.

سبق أن دخل في أزمة حادة مع الفنان المصري عادل إمام، عندما أفصح الأخير عن وجود عرض مغر له من خالد الجندي للقيام ببطولة فيلم يتحدث عن الإسلام، فرد الزعيم بأنه فنان لكل الأديان، ما دفع الجندي لاستغلال منبره الإعلامي للانتقام من إمام، ووصفه بالممثل الفاشل الذي شوه صورة الدين وربطه بالإرهاب، بسبب أعماله التي تطرقت إلى التطرف والتشدد.

هنا تكمن الأزمة العميقة للجندي، أنه يتحدث بعكس ما يفعل، ويقوم بتصرفات هو من حرمها على الآخرين، ويمنع متابعين من أشياء يمارسها، والأكثر من ذلك، أنه شخصية يصعب أن تتقبل النقد، فإذا هاجمه المنتقدون لأي موقف، يصفهم بالسفهاء والمتشددين، وهي نفس الأزمة التي تعاني منها المؤسسات والتيارات الدينية التي يفترض أنه يختلف معها فكريا.

يرى في نفسه أكثر قدرة على دفع مسار تجديد الخطاب الديني، مع أنه يمتعض من أقل نقد يوجه إليه، ويضفي على نفسه قدرا من قدسية الرأي، فيما يبدو أنه أخفق في التحلل من هيمنة الفكر الأزهري على بعض توجهاته وقناعاته، وهي التي تتجلى في الحساسية المفرطة التي تصيبه لمجرد الاختلاف معه، فتراه يوجه سهامه بضراوة للانتقام من معارضيه.

معارك دينية

أغرب فتاوى الجندي اعتباره الوطنية ركنا من أركان الإسلام، وهي الفتوى التي عدّها كثيرون سياسية بحتة، لأنها تحمل إشارات توحي بأن دعم النظام القائم من جوهر الدين، وأن من يعارض ذلك إيمانه ليس مكتملا
أغرب فتاوى الجندي اعتباره الوطنية ركنا من أركان الإسلام، وهي الفتوى التي عدّها كثيرون سياسية بحتة، لأنها تحمل إشارات توحي بأن دعم النظام القائم من جوهر الدين

يتباهى الجندي بكونه أحد علماء الأزهر الذين تزوجوا من مسيحية، ويصور ذلك على أنه انعكاس لكونه داعية صادقا في رسالته الداعية لتكريس حرية العقيدة، مع أن زواج المسلم من غير المسلمة من الأمور البديهية التي أباحها الإسلام صراحة، ومجرد الافتخار بالفعل للإيحاء بالانفتاح أحد تجليات التحضر المزعوم، لأن العصرنة تتطلب قدرا من حرية الرأي والتعبير وعدم احتكار وجهة النظر الصحيحة وترك الناس يتعاملون مع بعضهم بأريحية دون وصاية مرتبطة بالجسد والحجاب والتعري، وهي أمور لا يؤمن بها الجندي ولا يسمح لأحد أن يبيح التحرر فيها.

من وجهة نظر الجندي، الخطاب الديني المتطرف سببه تصور بعض رجال الدين امتلاك الحقيقة المطلقة، لكن إذا قال رأيا في قضية بعينها يتعامل وكأن كلامه القول الفصل وما دون ذلك مشكوك في صحته، وهي أزمة أغلب العاملين في المجال الدعوي حتى صار الناس مشتتين بين محتكري الفتوى والمتشددين.

يُحسب عليه، أنه يختصر تجديد الخطاب الديني في معارضة جهات الفتوى دون تقديم حجج مقنعة للجمهور تبرر مواقفه وتدفع الناس للإيمان بها، مع أن هناك الكثير من الدعاة وعلماء المؤسسة أنفسهم لديهم رؤى مختلفة وأكثر انفتاحا، لكنه يعوّل على الاهتمام بالموضوعات التي تشغل بال السلطة وصناع السياسة ليركز عليها، ويتبنى وجهة النظر الداعمة لها.

الجندي أخطأ التقدير وتمادى في اتخاذ قرارات جعلته في مرمى نيران الشارع، حتى آراءه المناهضة للمتشددين صار البعض يشكك فيها

يدرك جيدا مدى اهتمام الرئيس عبدالفتاح السيسي بمسألة الطلاق الشفهي، والسعي لإقناع الأزهر بعدم وقوعه لتحجيم معدلات الطلاق بالمجتمع، وهو ما رفضته هيئة كبار العلماء من قبل، لذلك لم يترك مناسبة إلا وتحدث عن أهمية كلام الرئيس وحتمية تحقيقه لأنه الحاكم الأمين على مجتمعه، ومن حينها قرر شن حملة لتحريض الأسر على عدم الاعتراف بالطلاق الشفهي، وقرر التبرع دون مقابل، لإبرام عقود زواج يكون ضمن شروطها الطلاق بالتوثيق فقط.

بلغت درجة سعيه إلى التقرب من السيسي، أنه دعا في إحدى المرات قائلا “اللهم احشرنا مع السيسي في الجنة، فهو نعم القائد والحاكم الشجاع”، ما عرضه لهجوم قاس من البعض، بلغ حد اتهامه بأنه الداعية الديني للنظام، والمتحدث باسم أنصاره، وقال معتدلون إن رجل الدين يفترض أن يكون مستقلا كأساس لمصداقيته.

اعتاد أن يستخدم لغة السب والهجوم اللفظي على من يعارضه أو يظهره على حقيقته كداعية سياسي وليس أزهريا معتدلا، مع أن العالم الديني يفترض ألا يستخدم توصيفات وعبارات تشكك في سماحته وهدوئه ووسطيته باعتباره مثلا أعلى لجمهوره ومتابعيه.

وعندما تمرد على الجلباب والعمامة الأزهرية وقرر الظهور في برنامجه الديني بملابس عادية مثل القبعة والقميص والبنطال، وانتقده البعض، سارع بتوجيه السباب إليهم واصفا إياهم بالسفهاء من السلفيين والجماعة الإرهابية، مع أن هناك أشخاصا عاديين ليسوا منتمين لأي فصيل إسلامي لم تعجبهم الهيئة التي ظهر بها، أو الحجج التي استند عليها.

مبارك حسب وصف الجندي هو "الزعيم الوحيد" ومعارضوه هم المتآمرون، لذلك ظل يدافع عنه في وسائل الإعلام خلال الأيام الأولى لثورة يناير 2011، ومع شعوره بخطورة الموقف انقلب عليه وطالب بعزله

برر تخليه عن الزي الأزهري بشكل مفاجئ، بأنه “يريد ارتداء ملابس مختلفة لتفريغ الذهنية الإسلامية من الارتباط بزي محدد وضعنا في حرج شديد، فاقترن في ذهن العامة بسبب التيار السلفي أن العمامة البيضاء مع اللحية دليل على التقوى والصلاح، وبهذه العمامة صُنع الإرهاب والتدليس على الناس باسم الأزهر والتحريض على مصر وأمنها”.

تبدو نوعية الدعاة من أمثال الجندي الذين تستعين بهم الحكومة مخاطرة، لأن التعويل على الدعاة الذين يتفاخرون بكونهم شيوخ “ملاكي” لتجديد الفكر والخطاب، مصداقيتهم متدنية، وفتاواهم مطعون فيها، في حين أن استقلالية الكلمة والتوجه بالنسبة إلى الداعية السبيل لتجييش الناس خلف قناعاته، وهو ما يصعب تحقيقه مع عالم أزهري مثل الجندي قال واعترف ذات مرة بأن “السمع والطاعة من شيوخ السلطان للرئيس واجبة من رجل الدين بأمر من الله”.

12