حين تفقد المؤسسة الدينية في تونس دورها الاقتصادي

أوجه التقصير في المطلق قد لا تكون من المؤسسة الدينية نفسها إذ من المفيد أن تقوم أي مؤسسة اقتصادية موضوعية بدراسة الالتزامات الدينية لبلد مثل تونس في ما يتعلق بالعيد والأضاحي.
السبت 2024/06/22
جاع الذئب واشتكى الراعي

قبل ثماني سنوات شكلت بادرة من ديوان الإفتاء في تونس بدعوة الناس إلى ترك الاحتجاجات العشوائية والاعتصامات المعطلة للإنتاج وسد الطرقات والإضرار بالملك العام، في ما تمر الدولة بوضع خانق حينها، أحد التدخلات النادرة للمؤسسة الدينية من أجل معاضدة جهود الدولة في إنقاذ الاقتصاد المتعثر. فقد غلف الديوان بيانه بما تفرضه عليه مهمته من الجانب الديني البحت لإقناع الجمهور بصواب رؤيته.

لم يكن أحد ليكترث في ذلك الوقت بدعوته تلك بالنظر إلى الأجواء المشحونة اجتماعيا.

المفارقة كانت هذا العام عندما امتنع الديوان نفسه عن تقديم فتوى تسمح بعدم شراء الأضاحي، رغم دعوة الكثيرين إلى اتخاذ قرار نظرا للظروف المعيشية الصعبة التي جعلت قرابة نصف الأسر تكتفي بشراء ما تيسّر من اللحوم حسب إمكانياتها المادية، فقط للحفاظ على طقوس العيد “الكبير” رغم أنه لم يعد يحمل نكهة أعياد أيام زمان.

أوجه التقصير في المطلق قد لا تكون من المؤسسة الدينية نفسها، إذ من المفيد أن تقوم أي مؤسسة اقتصادية موضوعية بدراسة الالتزامات الدينية لبلد مثل تونس في ما يتعلق بالعيد والأضاحي. وهذا في الواقع يوفر قراءة للمؤسسة الدينية بحيث تضع الاعتبار الاقتصادي عندما توجه الإفتاء أو النصيحة في ما يتعلق بـ“الاستطاعة”.

دار الإفتاء لا تقتصر مهمتها على المواعظ وإصدار الأحكام الشرعية لتنظيم حياة الناس، بل يجب عليها أن تقوم بمراجعات عميقة، لجعل الناس يثقون بها بشكل أكبر خاصة أثناء الأزمات

لكن هل يمكننا أن نتساءل ونتجادل بشأن ما إذا كانت مؤسسات الدولة ومراكزها البحثية بالتعاون مع منظمات المجتمع المدني قد قامت أو وفرت أبحاثا كافية بعيدا عن الأرقام الجافة التي ينشرها معهد الإحصاء الحكومي أو المسؤولون أو النقابيون أو معشر الخبراء، بحيث يمكن توظيفها بما يخفف الأعباء عن المستهلكين دينيا وماديا. المؤكد أن ثمة أطنانا من الدراسات التي انتهى بها المطاف إلى الأرفف دون توظيفها وتطويعها بشكل فعال، وهذا قد يكون تقصيرا بحد ذاته.

هذا الأمر تناقشت فيه فعليا حتى قبل أن تقترح علي إدارة التحرير الخوض في مسألة التناغم بين ما يتوفر من دراسات اقتصادية قد تفيد ديوان الإفتاء في المسألة الدينية بالنسبة إلى العيد والأضاحي، مع أحد الزملاء السابقين، وهو دكتور في الشريعة الإسلامية الآن حول ما إذا كان من الصواب الاستئناس بما يقدمه لنا معشر الفقهاء دون ربطه بالجانب الاقتصادي المؤثر أساسا في حياة الناس. كان الرد من الجانب الديني فقط وتمحورت الإجابة حول الاستطاعة، أيضا.

هناك جانب يبدو مقنعا بالنسبة إلى الكثيرين بأن الامتناع عن القيام بشعيرة دينية مثل الأضاحي قد يضر بالاقتصاد وتحديدا الزراعة، لأنه سيؤثر على المربين والتجار، بيد أن إمكانية إلغائها لموسم أو اثنين كما فعل المغرب في سنوات 1993 و1994 و1995 بسبب الجفاف في تلك الفترة، تبدو أمرا يقبل النقاش. مع ذلك فإن السير فيه ربما يخفف بعض الأعباء المالية الإضافية عن الناس، وأيضا إتاحة الفرصة لتنمية قطيع الماشية مع الرهان على انخفاض الأسعار المحكومة أساسا بالعرض والطلب.

إن الدراسات الاقتصادية الصادرة عن مؤسسات الدولة أو المنظمات أو مراكز الأبحاث قد توفر مجموعة من الأدوات والمفاهيم التي يمكن للمؤسسة الدينية الاستفادة منها. فمثلا القرار بشأن ما إذا كان ينبغي لها الإفتاء بعدم شراء أضحية العيد بسبب الجفاف والتضخم يعتمد على مجموعة من العوامل، بما في ذلك الظروف المحلية والاقتصادية والاجتماعية رغم أن لديها توجيهات دينية تنص على أهمية إحياء الشعائر الدينية وأداء الواجبات الدينية، وفي الوقت ذاته قد تتضمن مرونة في حالة الضرورة أو الحاجة.

تعزيز الأخلاقيات الاقتصادية السليمة في صميم اهتمامات المؤسسة الدينية، إذ لا يخفى على أحد أن مبادئ الشريعة التي تستند عليها تسهم في بروز مجتمع متوازن نوعا ما مع تنمية شبه مستدامة في الحد الأدنى

مع ذلك، فإنه يمكن للمؤسسة الدينية دراسة بدائل ممكنة مثل دفع الناس إلى البحث عن أضاحي بأسعار أقل وتكون معقولة، رغم أنه أمر صعب في الواقع، أو بالتعاون مع مؤسسات أخرى لتقديم أضاح بشكل مشترك تخفيفا عن الأسر المنهكة أصلا من كثرة النفقات سواء العادية أو الموسمية، كما يمكن لها التواصل مع المجتمع وفهم آراء ومخاوف التونسيين بشأن أي قرار نافع لهم مع البحث عن حلول تكون أكثر اتزانا بحيث “لا يجوع الذئب ولا يشتكي الراعي”.

أي قرار من هذا النوع، أو في أي مواقف أخرى شبيهة بذلك، يتطلب تحليلا شاملا يتضمن كافة العوامل الاقتصادية والدينية والاجتماعية، ويفضل أن تكون القرارات المتخذة مبنية على دراسة دقيقة والتشاور مع كافة الأطراف ذات العلاقة. وبشكل عام تعتبر المؤسسة الدينية، شريكا مهما في التنمية بفضل قدرتها على توجيه الموارد والتأثير في سلوكيات المجتمع الذي تخدمه.

ما يمكن استخلاصه أن دار الإفتاء لا تقتصر مهمتها على المواعظ وإصدار الأحكام الشرعية لتنظيم حياة الناس وتوحيد الصف بشكل فيه نوع من “القمع البيروقراطي الديني”، بل يجب عليها أن تقوم بمراجعات عميقة، أولا من أجل تطوير عملها ونشاطها بالاستناد على الأرقام والإحصائيات لكي لا تكون في جزيرة معزولة عن الواقع المعيشي، وثانيا هو جعل الناس يثقون بها بشكل أكبر خاصة أثناء الأزمات والتي أصبحت فيها كل الأمور تدار بمنطق من استطاع إليه سبيلا.

ثمة أمر آخر لا يقل أهمية، يتعلق بتعزيز الأخلاقيات الاقتصادية السليمة وهو في صميم اهتمامات المؤسسة الدينية، إذ لا يخفى على أحد أن مبادئ الشريعة التي تستند عليها والمتعلقة بالعدالة والنزاهة في الأعمال التجارية والمساواة في الفرص بين الجميع تسهم في بروز مجتمع متوازن نوعا ما مع تنمية شبه مستدامة في الحد الأدنى.

قد تبدو المهمة صعبة، وهي كذلك، لكن ما الفائدة إذا انعدمت إرادة الاجتهاد في طريق محو الحد الفاصل بين ما هو ديني أو اقتصادي خدمة للتونسيين.

9