حياتنا بين ذات حرة تبحث عن معنى وجودها وذات غريبة تحيا على حساب الآخرين

باحثون يؤكدون أن هروب الإنسان من القلق إلى الحياة الاجتماعية لا يعد أمرا سيئا في المطلق، وهو أمر مفروغ منه فهذه هي سنة الحياة.
الأربعاء 2019/08/21
هروب من القلق

لماذا جئنا إلى هذه العالم؟ وما الهدف والغاية من وجودنا؟ وهل كان الأمر سيختلف لو لم يكن الله قد خلقنا مختلفين عن سوانا من الناس؟ أسئلة نطرحها يوميا على أنفسنا، فلا نجد لها إجابات شافية في الغالب ليس بسبب صعوبتها بل لأنها تجرنا إلى دوامة من الشكوك والاندهاش والحيرة وتأخذنا إلى مناطق محظورة، يصعب على العقل البشري استيعابها أو الخوض في غمارها. تعرض الفلاسفة على مرّ العصور لهذا النوع من الأسئلة المعقدة ولماهية الحياة وجدوى الوجود الإنساني، فلم يحصدوا إلا النزر اليسير من الاستنتاجات ولّد أغلبها علامات استفهام جديدة وأكثر تعقيدا.

عالج الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر، فكرة الوجود والغاية من الحياة في كتبه.. أي التفكير في معنى أن يكون الإنسان موجودا وليس في ما ينجم عن وجوده. أما وجود الإنسان عند هايدغر في فكرته المبسطة فهو نوعان؛ الأول وجود أصيل مفعم بالقلق للبحث عن ذاته وحقيقته وهو الذي يمنح العالم المعنى، ووجود أصيل يهرب من القلق بالـ”الثرثرة اليومية والتسلية” وهذا الوجود زائف يهرب إليه الإنسان حتى يتجنب مواجهة حقيقة الموت، يهرب من ذاته لينساها وينغمس في الجماعة فينشغل عن مأساة الوجود.

يميز هايدغر بين “ذات حرة تأخذ على عاتقها مسؤولية وجودها، وذات غريبة على ذاتها، فقدت حريتها فأصبحت تحيا على حساب الآخرين..”.

ويعتقد هايدغر أن الوجود الإنساني متجه إلى الموت على نحو لا مهرب منه، وهذا هو السبب في شعور الإنسان بالقلق والجزع المبهم والتوتر، وغير ذلك من الانفعالات المصاحبة لها. ويجد في كل هذا دافعا مهما يجعل بعض الناس يبالغون في علاقاتهم الاجتماعية، فينغمسون في الاهتمامات التافهة والثرثرة الفارغة والفضول السطحي في محاولة مستمرة للفرار من أسباب هذا القلق الخفي.

محاولة الهروب من القلق بالانغماس في كينونتنا الإنسانية ليست شرّا

وحتى يصل إلى استنتاجه الأكثر جدلا يقول “في القلق يكون المرء”، إذ أن الإنسان يقلق لأنه يدرك بأنه محكوم عليه في النهاية بالموت وهو العدم نفسه، الأصالة بالنسبة له تكمن في “انتظار الموت بحزم”.. حيث أن منشأ القلق عند هايدغر هو الخوف من العدم  “وما الخوف.. إلا حالة الخوف المطلق أمام العراء المطلق.. إن ما يشعر المرء بالقلق هو الوجود في العالم”.. القلق عنده هو الشعور الأساس بالوجود في هذا العالم حيث تنكشف حقيقة الموت والعدم وعبثية الوجود، وهذا هو بالتحديد ما يجعله يفر منه إلى الآخرين والاحتماء بالانغماس في وجوده الزائف.

ويشير الدكتور روبرت تاييبي، أستاذ مساعد في جامعة ساوث كارولينا الأميركية وصاحب مؤلفات عدة في مجال القلق والاكتئاب ومتخصص في العلاج الأسري، إلى أن هروب الإنسان من القلق إلى الحياة الاجتماعية لا يعد أمرا سيئا في المطلق، وهو أمر مفروغ منه فهذه هي سنة الحياة، حيث ترتبط إجاباتنا المباشرة عن مسألة وجودنا بالحاجة إلينا في هذه الحياة، فنحن نلعب أدوارا كثيرة ومهمة مثل خدمة المجتمع الذي نعيش فيه من خلال العمل وتربية الأطفال، العناية بكبار السن، دعم النشاطات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.

وكل هذا يحدث في مرحلة زمنية وعمرية محددة حالما تنتهي يقفز إلى أذهاننا مجددا السؤال ذاته لكن بمرارة أكبر.. “من نحن؟” هذا لأننا نكون قد خسرنا ظاهريا الهدف من حياتنا فأصبحنا على الهامش، معرضين للقلق والاكتئاب مرة أخرى.

روبرت تاييبي: "ما هو أكثر صعوبة من العثور عن إجابة صحيحة عن معنى الحياة وماهيتها، هو النظر إلى ما وراء سعينا ومسؤولياتنا وما حققناه وما نستطيع تحقيقه"

مع ذلك، يتبع البعض الآخر مقاربة مختلفة لحياتهم، فهم لا يسألون أنفسهم أبدا عن الهدف من حياتهم ووجودهم لأنهم يفعلون ما يفعلونه فقط لذات الشيء، ربما يسعون جاهدين لتحقيق أهداف بسيطة قصيرة الأجل وربما لا. ويحاول هؤلاء تحقيق بعض الأهداف التي تبدو مهمة وكبيرة، لكن تكرار الفشل في تحقيقها يجعلهم يستسلمون بسهولة ويتخلون عنها، في حين يبدون راضين تماما عما حققوه بالفعل وما يحققونه على هذه الأرضية الوسطى من التفكير. كل ما يشغلهم في الواقع أن تمضي أيامهم بصورة جيدة وهذا يكفيهم.

عدا هؤلاء وأولئك، هناك صنف من البشر الذين يكتفون بطرح أسئلة الوجود ويقضون الوقت في معاناة وصراع، من دون أن يحصلوا على إجابة شافية أو إجابة مطلقة وهذه هي أكثر شريحة تقع بسهولة فريسة لليأس، فهي الشريحة التي لا تمتلك اتجاها أو هدفا على الرغم من وجود اليقين بأن هناك ما هو أبعد من وجودهم المادي وإن غايات الحياة أبعد من محيطهم المعرفي بكثير.

ويقول روبرت تاييبي “ما هو أكثر صعوبة من العثور عن إجابة صحيحة عن معنى الحياة وماهيتها، هو النظر إلى ما وراء سعينا ومسؤولياتنا وما حققناه وما نستطيع تحقيقه، فالشعور بالقلق ومحاولة الهروب منه بالانغماس في كينونتنا الإنسانية ليس شرا في جميع حالاته، إذا ما أدركنا بأن وجودنا في هذه الحياة يدفعه هدف ما قد يكون خافيا عنا”.

الأمر ببساطة، يتطلب منا التراجع قليلا إلى الخلف والتركيز في الصورة من بعد لتتضح أكثر.. أما السؤال الأهم الذي يمكن أن نواجه به أنفسنا في هذه الحالة فهو: ما هو العمل الفريد الذي يمكننا القيام به دون غيرنا من الناس، العمل أو الهدف المرسوم على مقاس إمكاناتنا وقدراتنا المميزة الذي لا يستطيع أي فرد القيام به عوضا عنا؟

إذا تمكنا من إيجاد إجابة واضحة ومباشرة لهذا السؤال، فإن الحيز الذي نشغله في حياتنا ووجودنا كبير ومؤثر والجدوى من وجودنا أمر ملّح وضروري.

21