حماس التونسيين الذي رافق العودة المدرسية

الكل في تونس متفق على أن التعليم خط أحمر لا يمكن التلاعب به ومسألة تقييم درجة النجاح في تطويره وتحسينه للحد من الأمية تختلف وفق زوايا الرؤية من أي طرف كان.
الثلاثاء 2024/09/24
استثمار في رأس المال البشري

الحماس الذي رافق العودة المدرسية في تونس، سواء من التلاميذ أو الأولياء، يعكس أن التعليم الذي طالما شكل نقطة قوة للبلد، شيء مُقدس ولا يمكن تحطيمه، لأنه بُني على دعائم متماسكة طيلة عقود. ويؤكد أهميته لدى الأسر مهما كانت الفروقات الاجتماعية، والأهم أنه يخفف من حدة الانطباعات السلبية التي تعتبر أنه قد فقد بريقه في السنوات الماضية نتيجة الأزمات، خاصة إذا ما تعلق ذلك بارتفاع مؤشرات الأمية.

العودة إلى مقاعد الدراسة، حيث تنعكس روح الأمل والتفاؤل للسلطة والأولياء والأسرة التربوية، ليست فقط مجرد دورة تعليمية جديدة لتخريج دفعات أخرى من الأجيال، بل هي أيضا تجديد للعزيمة في مواجهة الصعوبات والتطلع نحو بناء مستقبل أفضل، والذي يحتاج إلى تصحيح المسار وإعادة ضبط، ومراجعة شاملة بمقاربة أكثر تماسكا واندماجا مع المتغيرات، بما يستجيب للتقنيات الحديثة وأدواتها، ومنهجية التدريس، ومتطلبات سوق العمل بعد ذلك.

هل يظل النظام التعليمي القائم مُقوضا بسبب ارتفاع مستوى الأمية والتسرب من المدارس؟ الإجابة: نعم. هل يمكن إصلاح ذلك؟ بالطبع يمكن إذا توفرت الإرادة والعزيمة والقدرة على إحداث اختراق في جدار التحديات التي لا تنتهي.

◄ من المستحيل تحسين نتائج المنشغلين بشيء آخر غير المدرسة، مع ذلك، يجد المعلمون والتلاميذ صعوبة في العثور على الحافز عندما تترك ظروف التدريس شيئا ما دون المستوى المطلوب

لطالما اعتبر التعليم عاملا من عوامل التنمية الشاملة والرخاء العام. ومن خلال مختلف الحكومات، عملت تونس باستمرار على إرساء نظام تعليمي يلبّي احتياجات المتعلمين والمربين. ومع ذلك، ورغم التحسن الواضح في كفاءة النظام التعليمي، والذي يمكن قياسه من خلال زيادة معدل الالتحاق بالمدارس لتطويق الأمية، لكن هناك إخفاقات تظهر مع مرور الوقت، خاصة منذ 2011، يتوجب تفكيكها.

القلق من ارتفاع معدل الأمية وبعض الصعوبات الأخرى المرافقة لذلك، من الأمور المحسوسة والمفهومة، لكن الروح الإيجابية للعودة المدرسية تسهم في تعزيز الوعي بأهمية التعليم كوسيلة للنمو الاقتصادي والتقدم الفكري والبحثي مهما كانت الظروف. فلولا المستوى القوي للتعليم، لما وجدنا الكوادر التونسية منتشرة من الشرق إلى الغرب.

في الواقع، كرست تونس حق وصول الجميع إلى التعليم، وقد كان ذلك شبه مجاني، ووجوبيا بالقانون، وعزز ذلك انتشار مدارس القطاع الخاص كتجارة. فالمدرسة حلقة أساسية في التنمية في المطلق، بل هي أيضا استثمار حقيقي في رأس المال البشري، باعتباره خزان الدولة الذي لن ينضب طالما كانت هناك عناية كافية به ليكون أحد محركات بناء الاقتصاد وقدراته.

مع مرور الوقت، كانت مواجهة تحدي نقص المتعلمين في المرحلة الإعدادية أو الثانوية بسبب انقطاعهم عن الدراسة، أو الأمية لدى النساء، بمثابة التزام حقيقي من الحكومات المتعاقبة لمعالجة هذه القضية الحساسة والمؤثرة. ورغم ما شهدته الدولة من أوضاع متغيرة وضاغطة اقتصاديا، ومشحونة سياسيا، فقد تم حشد الوسائل اللازمة لنجاح هذه المهمة طيلة أعوام.

التقييمات بطبيعة الحال لهذا الأمر نسبية. الأرقام تخبرنا بما يحدث، ولنكن إيجابيين قليلا، فقد ارتفع عدد التلاميذ في السنة الدراسية 2024 – 2025 باثنين في المئة عن العام السابق إلى أكثر من 2.35 مليون، وفق وزارة التربية والتعليم، وأن عدد المدارس زاد بمقدار 37 في المئة ليبلغ 6163 مدرسة. الوجه السلبي عندما ننظر إلى قرابة العدد نفسه ممن لا يفقهون القراءة والكتابة. هنا يكمن التحدي!

هذه البيانات مفيدة لفهم أشمل وأعمق بأهمية اكتساب المعارف التعليمية باعتبارها قيمة إنسانية جوهرية، هي تماما كأهمية الحصول على الأساسيات الأخرى ضمن حدود حق المواطن على الدولة من ماء وكهرباء وطرقات وغيرها، ضمن ما يكفله الدستور، وبما يحقق المساواة، والتوازن الاجتماعي وتكافؤ الفرص.

◄ العودة إلى مقاعد الدراسة ليست فقط مجرد دورة تعليمية جديدة لتخريج دفعات أخرى من الأجيال، بل هي أيضا تجديد للعزيمة في مواجهة الصعوبات والتطلع نحو بناء مستقبل أفضل

الهدف الأساسي لتونس كان دائما هو التفوق في مجال التعليم، وقد حققت نتائج جيدة بغض النظر عن تهالك البنية التحتية أو ضعف الوسائل والآليات، أو حتى الإمكانيات المادية، بفضل ما رسخته الدولة خلال عهدي الرئيسين الراحلين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي من أسس قوية، قبل أن يتقهقر ترتيب تونس لأسباب متعددة، ولتحتل المركز 84 عالميا والسابع عربيا في تصنيف جودة التعليم الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي لعام 2024.

الآن يبدو أن الهدف هو خفض مستوى الأمية قدر الإمكان في ظل النمو الديموغرافي، بما يسمح برفع قدرة المتعلم إلى مستويات أعلى. لكن النسبة لا تزال مرتفعة، فهي تقترب من 18 في المئة من السكان، أي قرابة مليوني شخص، مع وجود فوارق من حيث العمر والجنس من منطقة إلى أخرى بكل تأكيد.

من المستحيل تحسين نتائج المنشغلين بشيء آخر غير المدرسة، مع ذلك، يجد المعلمون والتلاميذ صعوبة في العثور على الحافز عندما تترك ظروف التدريس شيئا ما دون المستوى المطلوب، ولذلك نسمع من كل الأطراف مطالبات بتسريع إصلاح القطاع. ومن الواضح أن توفير الأموال الكافية يشكل ضرورة لتفعيل أيّ خطوة في هذا الاتجاه. وأيضا على المستوى الفردي، يمكننا أن نفعل الكثير.

قد تصيب سياسة الدولة هدفها، وقد تخطئ نتيجة سجال سياسي أو صراع نقابي، ففي المحصلة الكل متفق على أن التعليم خط أحمر لا يمكن التلاعب به، ومسألة تقييم درجة النجاح في تطويره وتحسينه للحد من الأمية تختلف وفق زوايا الرؤية من أيّ طرف كان.

9