حسن حسني.. ممثل مسكون بالأشباح يشكل شخصياته كالصلصال

ممثل مصري مبدع، كانت روحه مسكونة بأشباح التمثيل، لديه قدرة نادرة على تغيير انطباعات وجهه وأدائه في الوقت ذاته من أقصى درجات الطيبة إلى الشر، ومن سوداوية الحزن إلى أنوار الفرح، ورغم وصوله إلى قلوب الجمهور متأخرا في عمر الخمسين إلا أنه أصبح راعيا لسينما الشباب، وقطارا فنيا يدهس بموهبته المتجددة من يقف أمامه، حتى رحل عن دنيانا السبت الماضي.
رحل حسن حسني عن عمر ناهز 89 عاما إثر إصابته بأزمة قلبية مفاجئة، طاويا معه تجربة غير متكررة متفجرة بالموهبة ومتعددة الوجوه، جسد جميع الشخصيات المهنية والطبقات الاجتماعية بالكفاءة ذاتها، وفرض نفسه على نجوم الصف الأول رغم استمراره في منطقة الممثل المساعد، ليثبت أن الفن وتقدير الجمهور لا يرتبطان بالأسماء، لكن بالعرق والتفاني.
خلف حسني وراءه تراثا فنيا ضخما يقترب من 490 عملا ما بين السينما والمسرح والدراما والإذاعة والكارتون، الكثير منها لن تموت مهما مر عليها الزمن، يكفيه أن خمسة من الأعمال التي شارك فيها بشخصيات محورية، تحتل مرتبة متقدمة في قائمة أفضل مئة فيلم في ذاكرة السينما المصرية، وهي “الكرنك”، و”سواق الأوتوبيس”، و”البريء”، و”زوجة رجل مهم”، و”ليه يا بنفسج”.
اتبع الفنان الراحل أسلوبا خاصا في التركيز على إجادة دوره، بصرف النظر عن جودة العمل ككل، فحتى الأعمال التي يمكن تصنيفها أنها دون المستوى وشارك فيها لاعتبارات مادية، خرج منها فائزا بحمل لقب “الأفضل”، بتلقائيته الشديدة، وتشربه لأدق تفاصيل الأحداث، وقرب أسلوب السهل الممتنع من رجل الشارع، وتركيزه على الفن كهدف وغاية.
ليه يا بنفسج
وُلد عام 1931 في منطقة القلعة بوسط القاهرة، التي تترك بصمة على شخصية من يخطون بأقدامهم الصغيرة حاراتها الضيقة، مع انفتاح قاطنيها على السياحة الأجنبية، ومقاه تحتضن جلسات المثقفين والسياسيين، وتجار يتبادلون النكتة أكثر من السلام بالأيدي، فهضم في سن مبكرة لغة الشارع ووظفها معه في محاولته الفنية الأولى بالمسرح المدرسي، حتى حصل على كأس التفوق وشهادات تقدير عن دور “أنطونيو” في المدرسة الخديوية.
تنطبق مقولة “رب ضارة نافعة” على تجربة حسني الفنية، فبعد نكسة 1967 تم حل فرقة المسرح التابعة للجيش المصري التي كان عضوا فيها، واقتصرت أعمالها على شريحة ضئيلة عدديا لا تتعدى الضباط والجنود وعائلاتهم لينتقل مع صديق عمره حسن عابدين إلى مسارح القطاع الخاص، وتقديم مسرحيات ناجحة كان أهمها “المركب اللي تودي” و”كلام فارغ” التي استمر عرضها لمدة 6 أشهر في رقم قياسي بمعيار فترة الستينات المعروفة بانتعاشة المسرح وتنافس العشرات من الفرق على إمتاع الجمهور.
ظل الرجل أسيرا لخشبة المسرح طوال عقد الستينات بالكامل والنصف الأول من السبعينات، حتى تلقى دورا صغيرا “جارسون في مقهى” في فيلم “الكرنك” مع المخرج علي بدرخان عام 1975، ودورا آخر أكبر نسبيا في مسلسل “أبنائي الأعزاء شكرا” مع أحد عمداء المسرح عبدالمنعم مدبولي، ليجيد تقديم شخصية الموظف المرتشي الشرير الذي كان وازعا للدفع به في فيلم “سواق الأتوبيس” مع الراحل عاطف الطيب.
استطاع حسني أن يمسك في الفرص السانحة أمامه بأظافره وأسنانه، فالفنان الذي بدأ يجد شهرته في عمر الخمسين كان يعرف جيدا أنه يفتقد رفاهية اختيار الأدوار ولا يحتمل تجارب السقوط، فانكب على العمل، حتى أطلق عليه المخرج الشهير خيري بشارة لقب “المنشار” مع مشاركته في كم كبير من الأعمال في الوقت ذاته دون تكرار لطبيعة الأداء في أي منها، كما لو كان رجلا مسكونا بأرواح تظهر كل منها في الوقت المناسب.
أصبح الخيار الأول في دور البطل المساعد لكثير من المخرجين المصريين، فهو لا يحتاج إلى توجيهات خاصة لأدائه ويوفر عليهم عناء إعادة اللقطات أكثر من مرة، حتى أطلق عليه كتاب كبار، مثل موسى صبري لقب “القشاش”، وهو لفظ يطلق على القطار البطيء الذي لا يخلف راكبا وراءه، مع امتلاكه قدرات تؤهله للتفوق في أي دور يسند إليه، ويخطف الضوء من الأبطال مهما صغر الوقت الذي يظهر فيه.
يميل الفنانون إلى التخصص في أدوارهم، فمنهم من يجد نفسه في عباءة الشر، ومنهم من يفضل دائما دور الطيب مع استثناءات طفيفة، لكن حسني برع في الجانبين وقدمهما بالكثافة والحضور ذاته، بقدرته في التلوين والتشكل السريع والجمع بين التناقضات المتعددة، فعيناه اللتان تحملان الطيبة والصدق تتحولان في لحظة إلى الكذب والمكر والخديعة، ولم يكن غريبا أن يجسد في موسم رمضاني واحد ست شخصيات مختلفة، بين الكوميدي والتراجيدي والطيب والشرير والمتآمر والخائن والأمين.
تكريم متأخر
عرف حسني طريق التكريم في حياته لأول مرة بعدما تجاوز الستين بخمس جوائز دفعة واحدة، عن دوره في فيلم “سارق الفرح” بشخصية القرداتي ”مدرب القرود“ يعشق فتاة صغيرة تريد أن تكون راقصة، وحينما يصارحها بحبه ويعرف أنها تبادله الشعور ذاته يفارق الحياة ممسكا بالدف الذي كان يناجي به الشمس كي تطلع ويداعب به روحه كي تصفو، وأجاد تقديم المشاعر المتضاربة بين الأبوة والحب والنهم والعشق والخوف والأمل والرجاء.
في العام ذاته، فاز بجائزة مهرجان السينما الروائي في القاهرة كأحسن ممثل متفوقا على فاروق الفيشاوي ومحمود حميدة، عن دوره في “فارس المدينة” ليصبح أول فنان من الصف الثاني يقتنص جوائز أفضل ممثل وليس ممثلا مساعدا، من أسماء كان لها حضورها في شباك التذاكر، ليثبت أن الإبداع لا يعرف عمرا ولا يرتبط باسم.
عندما بدأت السينما الشبابية تنتشر في مطلع الألفية الثانية، رفض الانزواء عنها، وشارك فيها بكثافة دون اعتداد بآراء نقاد وكتاب كبار، مثل حُسن شاه التي قالت إنه يضيع موهبته وتاريخه بالتورط في سينما المقاولات، فالرجل الذي كان والده مقاولا شهيرا في مسقط رأسه بحي القلعة، لم يجد غضاضة في تلك الأعمال الخفيفة التي اعتبرها مناسبة لجيلها وعصرها.
أجاد ركوب تلك الموجة جيدا، وكان مثل ملح الطعام لا يخلو منه أي عمل، فاستثمر الفرصة في زيادة غلته من الأعمال السينمائية وتعويض فترة الحرمان الطويل التي عاناها في بداية مشواره، حتى أن أوراق السيناريو كانت تعرض عليه أحيانا قبل البطل الرئيسي، ليشارك في نحو 196 عملا منذ مطلع الألفية الثانية تعاون فيها مع جميع النجوم الشباب تقريبا.
شكل حسني ثنائيات فنية مع جيل الشباب قائمة على عنصر المنافسة الفنية، فرغم صغر مساحة الدور، إلا أن اللقطات التي يظهر فيها تترك انطباعا، وتبارى في فنون الإضحاك على مستوى حركة الوجه، واستطاع التعاون مع أسماء أصبحت نجوما، مثل محمد هنيدي وأحمد حلمي وأحمد مكي ومحمد سعد، وبعدهم رامز جلال وأكرم حسني، في غالبية تجاربهم الناجحة. يعتبر كثيرون أن حسني الذي لم يحصل على تعليم جامعي، كان قد تعامل مع الفن بمنطق الوظيفة أو الحرفة التي يجب أن يؤديها على أكمل وجه، وأيا ما كانت الظروف، حتى أنه استكمل دوره في مسلسل “مزاج الخير” بعد ساعات من وفاة ابنته بمرض السرطان احتراما لتعاقداته، ورغم دخوله في مرحلة اكتئاب نفسية بعدها أبعدته عن الفن لعدة سنوات.
كان الفنان المصري الأكثر مشاركة في الأعمال الخليجية خلال العقد الأخير، على مستوى المسرحيات الكوميدية مثل “بيت المرحوم”، أو الدراما كأجزاء المسلسل السعودي “شباب البومب”، أو المسلسل الكويتي “خالي وصل”، ليكمل تجربة اعتز بها كثيرا في الثمانينات، حينما تم توصيفه بـ”الممثل الطائر”، بمشاركته في كثير من أعمال استديوهات “دبي” و”عجمان” في دولة الإمارات العربية المتحدة.
مدرسة خاصة
الميزة التي امتلكها حسني أنه لم يقولب نفسه كغيره من فناني الكوميديا، فلم يقترب من بعيد أو قريب من جيل عظماء الكوميديا الكبار، أمثال إسماعيل ياسين وعبدالفتاح القصري وعبدالسلام النابلسي وغيرهم، وابتكر لنفسه مدرسة خاصة، لم يستعجل فيها يوما النجاح، فشقاؤه في الحياة علمه الصبر، بعدما ذاق مرارة الفقد في سن صغيرة بوفاة والدته وهو لم يتجاوز السادسة، وفقدان شقيقه في ريعان شبابه في حرب أكتوبر 1973.
ارتبط بعلاقة فريدة بغالبية الأجيال الجديدة، من منطق أبوي اتساقا من تجربته الخاصة مع الفنان عماد حمدي الذي رشحه لفيلم “سواق الأتوبيس” في دور مؤثر بالأحداث ولم يطمع الفنان الكبير حينها في الدور وقبل بآخر مشاهده لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة.
لم يبخل حسني بآرائه عن الأجيال الجديدة واحتضنها، فنصح محمد سعد بالتوقف عن تكرار شخصية “اللمبي” لأنها تدفع به إلى الأسفل على صعيد الجماهيرية وشباك التذاكر، ونجوم مسرح مصر الذين اعتبرهم “غير أذكياء” بلهثهم السريع وراء البطولة المبكرة دون ثقل قدراتهم أو معرفة كيفية الانتقال السلس من المسرح والارتجال إلى انضباط السينما والدراما. ولم يترك فئة عمرية إلا وخاطبها بصورته أو بصوته، وكان حريصا على التواجد في أعمال الكارتون المحلية للتقرب من جمهور الأفلام المتحركة العريض ومن ضمنه الأطفال الصغار، فشارك في كل أجزاء مسلسل “سوبر هنيدي”، و”مغامرات لومة والمعلم سلومة”، و”عائلة رمضان كريم”، و”افهمني شكرا”. تتجلى القيمة الفنية لحسني في انغماس كثير من أعماله في الحياة والتغلغل في صميم المشكلات الاجتماعية وتأثيرات الزمن على المجتمعات لتؤكد أن الفن ليس فقط مبدأ للحياة، بل هو الحياة ذاتها، ففي “سواق الأتوبيس” جسد العمل أجواء الثمانينات بشوارعها وتضرر الطبقة المتوسطة من الانفتاح الاقتصادي والأثرياء الجدد. وفي “الكرنك”، أهم فيلم سياسي مصري، يظهر انتهاك آدمية المواطن وكرامته في أقصى صورها بسبب دفاعه عن الحرية ويصبح الحالم بمستقبل أفضل للوطن عدوا للوطن، وفي “المواطن مصري” يظهر الفلاح المقهور الذي يتخلى بسبب العوز وكثرة الإنجاب عن أبسط حقه في أن يحمل ابنه الذي من صلبه اسمه ويتم الدفع به تحت اسم مزيف للحرب حماية لابن العمدة الثري.
على مستوى الدراما، استطاع أن يحجز لنفسه مكانا ضمن الأعمال الأفضل، فكان حاضرا في “السبنسة” الدراما الاجتماعية التي فجرت أوضاع المرأة المعيلة ومكابدتها صعاب الحياة، وفي “’أرابيسك” يعيش الجمهور معه تغييرات الأسرة المصرية وتفككها تحت ضغط المصالح والمنافع الاقتصادية، وفي “بوابة الحلواني” يجول المشاهد في عالم القصور الملكية ومؤامرات الحكم، وفي “البشاير” يعرف المشاهد كيف يمكن للدراما حال توظيفها جيدا أن تكون عونا لجهود الدولة في تعمير الصحراء، وفي “غوايش” يرى الثأر ومآسيه من زاوية شديدة الرومانسية في مجتمع شديد الانعلاق فيها، لينتصر الحب على الدم والحقد.
لقد أكد حسن حسني، الذي ظل يبعد حياته الشخصية كثيرا عن الأضواء، في آخر حواراته، أنه لم يشعر بالخجل من الأعمال التي قدمها، حتى وإن كان غير راض عن بعضها ووافق عليها بدافع الضغط من قبل الأصدقاء أو الرغبة المالية، ينام مرتاح البال عن حياته التي أفناها في الفن، “فكل إنسان يخطئ ويصيب، ويبدي سعادة في تحول جمله الحوارية وتعبيرات أعماله إلى حكم حياتية للشباب يتبادلونها في جلساتهم أو على صفحاتهم في مواقع التواصل الاجتماعي واعتبرها ميراثا يورث”.