مسلسل "ليه لأ 2".. معالجة درامية مثيرة لكفالة مجهولي النسب

يبتعد مسلسل "ليه لأ" في الجزء الثاني منه عن شخصنة قضايا المرأة ورغبتها في خوض حياة مستقلة إلى مساحات أوسع من القضايا المجتمعية وتدفقات المشاعر الإنسانية المتعلقة بالرغبة في الأمومة، وافتقار الحنان الأسري والصراع النفسي للمرأة العاملة للاختيار بين حياتها وعملها.
القاهرة - تدور أحداث المسلسل المصري “ليه لأ” في جزئه الثاني في 15 حلقة عن “ندى” (الفنانة منة شلبي) طبيبة العيون وهي على حافة الأربعين من العمر، وتعيش بمفردها حياة تقليدية قبل أن تنقلب حياتها فجأة رأسا على عقب أثناء عودتها من عملها، فتلتقي بفتاة ريفية تسلم لها طفلتها الرضيعة التي حملت فيها من سفاح خشية أن تتعرّض للقتل من أسرتها، وتهرب لتصبح البطلة مسؤولة عن الطفلة.
يقحم العمل المشاهدين في الأحداث سريعا فلا يعطيهم وقتا للتمهيد بإيقاظ عاطفة الأمومة الكامنة في الطبيبة التي عجزت في البداية عن التعاطي مع الرضيعة، واشتكت من الإرهاق البدني الذي تتطلبه تلبية طلبات الطفلة وبكائها المستمر لأسباب غير مفهومة، وحتى التعلق بها والشعور بالفراغ الشديد بعد إيداعها في مؤسسة للأيتام.
صراع نفسي
يتطرّق العمل إلى عالم الأطفال مجهولي النسب وما يكابدونه من شقاء منذ لحظة العثور عليهم، بإبلاغ الأجهزة الأمنية التي تحيل القضية إلى النيابة العامة قبل إيداعهم في دور أيتام تتضمن موظفين لا يجيدون إلاّ لغة الصراخ والعقاب والاعتداء البدني، ويخضعون لإملاءات شبكة المتبرعين في التضييق على حرية الصغار ومنعهم من أبسط حقوقهم.
ويتضمن المسلسل صراعات متعددة، شقّ كبير منها نفسي باختيار البطلة الصعب بين تبني الطفلة التي ألقتها الأقدار في طريقها و”يونس” الطفل الودود مجهول النسب الذي ارتبط بها منذ رأته في دار الأيتام، وأصبح يعاملها كأمّه، وإعادة حساب معادلتها العمرية كامرأة ترغب في الأمومة وتقل فرص تحقيقها بصورة طبيعية يوما بعد يوم.
وينتقل الصراع سريعا إلى الصدام مع المجتمع بأسره مع رغبة ندى في احتضان الطفل، بداية من استغراب مسؤولين حكوميين لسعي امرأة جميلة للتبني رغم قدرتها على الإنجاب، والممانعة الشديدة من شقيقها العائد بأسرته من الخارج بعد فصله من عمله، وانتقاد صديقتها التي ترى الأمر مسؤولية تفوق طاقتها ممّا سينعكس بالسلب عليها.
ينتقد “ليه لأ 2” النظرة السلبية لمجتمع الأطفال الأيتام والمجهولين التي تصل إلى رفض شقيق الطبيبة أن يخالط طفلها المتبني نجليه لأنه “مختلف”، وكمّ التهكم والاشمئزاز الذي صاحب تناوله لأنماط من الطعام تتطلب إجادة أدوات مائدة لم يستعملها من قبل، وحتى نظرات الشذر التي صاحبته بعد دخوله مدرسة أجنبية، وعجزه عن التواصل مع معلميه وأقرانه.
وكعادة الكاتبة مريم نعوم، المشرفة على ورشة كتابة المسلسل، حافظت على طريقتها في قصف جبهة المجتمع الذكوري الذي يحاول فرض هيمنته على المرأة وسيطرة النزعة المادية على تفكيره بشخصية زميلها في العمل الذي يهاجمها باستمرار ويحاول فرض قراراته لمجرد رغبته في الزواج منها دون الوصول حتى إلى مرحلة الخطبة، وشقيقها الذي يمانع تبنيها طفلا حتى لا تنفق حصتها من تركة والدها على العناية بشؤونه.
ويثير الجزء الثاني من “ليه لأ” اهتمام قطاع واسع من المشاهدين، فمشكلاته أكبر بكثير من الشخصنة التي تضمنها جزؤه الأول، عن الفتاة “عاليا” (الفنانة أمينة خليل) التي تهرب يوم زفافها لتخوض حياة مستقلة بذاتها متحدية والدتها، فتعمل كسائقة في شركة للنقل الذكي، وعاملة في مطعم، ومصورة فوتوغرافية، وتتزوّج من تحب في النهاية.
لكن “ليه لأ 2” يقترب كثيرا من الحياة اليومية للمواطن في أحداثه بشروط المدارس الدولية المجحفة التي لا يكفي معها امتلاك القدرة المالية دون واسطة أو توصية من مسؤول، ورفض أولياء أمور الطلاب وجود الأطفال مجهولي النسب أو أبناء الفقراء وسط أبنائهم باعتبارهم “أخطاء مجتمعية” لا يجب أن تتخالط بأبناء الطبقات العليا.
ويركّز كثيرا على التنافر الثقافي للأطفال كأحد نتاجات التعليم، والذي يخلق شعورا غير مريح بعدم التوافق والارتباك أو الصراع مع تغيير بيئتهم، فينتج أطفالا عاجزين عن الحديث بالعربية أو التواصل عبرها، ويعتبرون الأغاني المحلية وفي مقدّمتها أم كلثوم “مُملة”، ويُفضلون الإيقاع الغربي مثل أغنية “القرد الراقص”، حتى تذوب مع تقدّمهم في العمر النسق الفكري للقيم.
ويظهر “ليه لأ 2” تداعيات نظام التعليم الأجنبي بجانب القومي الذي يعدّ أحد المظاهر الواضحة لطبقية التعليم بخدمة فئة محدّدة من أبناء المجتمع تمثل النخبة منه على عكس باقي الطبقات، فحتى ذكر اسم مدرسة محلية قدم منها الطفل المتُبنّى أمر مثير لضحك باقي أقرانه بجانب دفع البعض من الأسر أبناءها لتخصّصات لغوية لا يتقنونها، فيضطرون تحت وطأة العجز عن مساعدتهم في التحصيل الدراسي إلى نقلهم إلى مدارس أخرى بتخصّصات لغوية مغايرة ليعاني الطفل في النهاية عدم القدرة على التكيّف، والحرمان من شبكة الأقران.
ولا يتضمن المسلسل تركيزا فقط على قذف جبهة الرجال، لكنه انتقد أنماطا من النساء أيضا تتّسم بالاتكالية والذاتية على حساب أسرهنّ، ممثلة في “رانيا” (الفنانة سارة عبدالرحمن) التي اختارت عملها على العناية بطفلتها وتنازلت عن الحضانة لطليقها حتى لا تعطلها عن المضي قدما في حياتها المهنية، وتكتفي بصداقته بدلا من الزواج فتقضي غالبية الوقت معه في عملهما المشترك وتزوره في المنزل باستمرار للنقاش حول مستقبل الأبناء.
تناقضات الحياة
أجادت القصة تقديم الشيء ونقيضه معا لإظهار التنوّع في الحياة واختلاف أنماط البشر بين الرجل الاتكالي الذي يعتقد في ذاته قدرات أعلى ويجلس في منزله باحثا عن الانتفاع بثروة والده، وآخر يقوم بمهام رجل وامرأة في الوقت ذاته بالعناية بابنته وعمله، وبين امرأة تضحي بابنتها من أجل العمل، وأخرى تضحّي بمستقبلها كله وتضعه على المحك من أجل سماع كلمة “أمي”.
واتسم أداء منة شلبي بالسهل الممتنع، فلم تتكلّف في توصيل مشاعرها، واكتفت بحركات الأعين وملامح الوجه للتعبير عن مشاعر مختلطة بين الغضب والدهشة والحنان والخنوع والتحدي التي تناسب دور سليلة أسرة ميسورة لديها القدر الكبير من التعاطف مع الفقراء، وترفض نعرة الاستعلاء الطبقي لمجتمع الأثرياء.
وأعاد المسلسل بتطرقه لأغاني المهرجانات الجدل الذي تخلفه مع فئات مجتمعية تعتبرها خطرا على منظومة القيم وإسقاطا للقدوة المرجوة، وتهميشا لطموحات الأجيال المستقبلية، مقدّما سببا غير مباشر لنجاحها، وذلك من خلال تعلقها بواقع وحال مستمعيها، فنزلاء دور الأيتام الذين يعتبرون أنفسهم جميعا أشقاء لا يملّون من ترديد أو سماع مهرجان “إخواتي” (أشقائي).
وقدّمت المخرجة مريم أبوعوف صورة مختلفة عن السائد في الدراما حاليا، فلم تهاجر بآلات التصوير للمجتمعات المغلقة “الكومباوند” كالمخرجين الحاليين وفضلت الأحياء القديمة مع دلالات تعكس كل طبقة بين السكن على نيل القاهرة، وأحياء مصر الجديدة الراقية، والتنقل في المناطق الشعبية والأجواء الريفية، وما تضمّه من عادات بالية أو ظواهر سلبية كالتحرش، لتعطي في النهاية توليفة بصرية تناسب الأحداث.
ويمثل المسلسل توجها فنيا جديدا لمنح الأطفال مساحات أكبر في الدراما عبر الطفلين منى أحمد زاهر وسليم مصطفى، بجانب تشكيلة الأطفال في دار الأيتام، بعدما أثبت ذلك الاتجاه نجاحه في جذب المشاهدين، في تجربتي “خلي بالك من زيزي” و”أحسن أب” في الموسم الرمضاني المنقضي، ونجح الأطفال بالفعل في توصيل قدر كبير من المشاعر التي تثير التعاطف مع قضيته الأساسية في كفالة الأيتام ومجهولي النسب.
ويثبت المسلسل أن الأعمال الاجتماعية مرتبطة بوجدان المشاهدين حال توظيفها لخدمة قضايا المجتمع الحقيقية والتحوّل إلى رأس حربة لتغيير الصور السلبية النمطية السائدة بما يتماشى مع اسمه ذي الطبيعة الاستفهامية “ليه لأ” التي تعادل في الفصحى (لماذا لا) ليثير تساؤلات مفتوحة: لماذا لا يقبل المجتمع تبني العزباء لطفل؟ ولماذا يهضم حقهم في التعليم والسعادة؟ حتى أن أمنيات مجهولي النسب الصغار للمستقبل تختلف عن أقرانهم فلا تتضمن طبيبا أو مهندسا. ولكن فقط أن يكونوا “سعداء”.
واختار “ليه لأ” أسماء أبطاله بحرفية شديدة ليصبح لكل منهم حظ من اسمه، فالطفل حمل اسم “يونس” كي يكون أنسا لمن يتبناه والطفلة حملت اسم “حنان” كناية عن مشاعر مفقودة تحتاج لمن يمنحها لها، والزوج الصالح الذي يجمع بين رعايته بين ابنته وعمله كان “صلاح”، وحملت البطلة اسم “ندى” كي تكون كقطرات تثلج قلوب أطفال تخلى عنهم آباؤهم ولم تقبلهم المجتمع بصدر رحب.