"للإيجار" فيلم مهرجانات يفشل في دور العرض السينمائية

لم يستطع فيلم “للإيجار” للفنان خالد الصاوي الصمود في دور السينما المصرية أكثر من أسبوعين حقّق خلالهما عائدات لا تزيد عن 10 آلاف دولار، رغم حصوله على جائزة من مهرجان الأقصر قبل عرضه سينمائيا، ليسير على ركب العشرات من الأعمال المصرية التي لا تستطيع الجمع بين الجوائز ورضا الجمهور في الوقت ذاته.
القاهرة – يحكي فيلم “للإيجار” للفنان خالد الصاوي عن مختار (خالد الصاوي) قبطان بحري خرج على المعاش، ويعيش وحيدا بمدينة الإسكندرية منذ وفاة زوجته، فيعرض إحدى غرف منزله للإيجار سعيا للتحرّر من العزلة والوحدة وتغيير حالته النفسية، ويعثر على ساكن جديد (محمد سلام)، فتترسّخ علاقتهما معا ويمضيان سويا في سلسلة من المفارقات الاجتماعية والحياتية.
ويمنح العمل قدرات تمثيلية كبيرة للصاوي الذي يتنقل بسلاسة بين عدة شخصيات، فهو الرجل الرصين الذي يحافظ على ذكرى زوجته ويذرف الدمع وينثر الورود على قبرها، وهو الهمجي المتصابي الذي يتنافس في ألعاب المقاهي ويجيدها، وهو أيضا العجوز اللعوب الذي يرقص في المنزل وعلى الشاطىء ويزاول المزاح باللسان واليد مع الجميع مهما كانت المواقف ودون اعتداد بفارق العمر.
وتبدو الإشكالية الأساسية في فيلم “للإيجار” هي محاولة تلطيف أجوائه الحزينة المحملة بالغموض عن مصير زميل للبحار السابق كان يسكن معه بالزجّ بقدر كبير من كوميديا الضحك التي لا تتناسب مع قصته الثرية، والتي جاء بعضها ضعيفا مثل “شغال إيه في البحر.. سُبِيط؟ (ماذا تعمل في البحر.. هل تعمل حَبَّارا؟) أو استهجان بائع بمجرد سماعه قائمة طلبات تتضمّن برغر اللحم كما لو كان اختراعا.
المواطن المصري لا يغامر بدفع ثمن تذكرته لأجل متابعة تدفقات من الحزن والمأساوية التي تذكره بواقعه الصعب
رفعت دور العرض في مصر الفيلم الذي ألفه وأخرجه إسلام بلال في أولى تجاربه مع الأفلام الروائية الطويلة بعد 14 يوما فقط، ليمثل تجربة جديدة غير ناجحة للشركة المنتجة له “بيرد آي” السينمائية التي اختفت من الساحة منذ فيلم “سيما علي بابا” للفنان أحمد مكي قبل عقد، والذي لم يجد صدى في شباك التذاكر أيضا.
وجاء العزوف الجماهيري عن الفيلم رغم عرضه في المسابقة الرسمية بمهرجان الأقصر للسينما الأفريقية وحصوله على جائزة، وقبل دخوله في منافسة جديدة في مهرجان الإسكندرية السينمائي المقرّر إقامته خلال الفترة من 25 سبتمبر وحتى 2 أكتوبر المقبل، والذي تم إهداء دورته السابعة والثلاثين للمخرج علي بدرخان احتفالا باليوبيل الماسي لميلاده.
ويملك الفيلم الجوانب المفضلة لاختيارات المهرجانات التي تعني باللغة السينمائية المقدّمة والصورة المغايرة للسائد بصرف النظر عن خيارات الجمهور أو مدى تقبله لها، بجانب انغماسه في إظهار المشاعر الإنسانية للفقد وتداعياته على الإنسان في شيخوخته التي لا تجعله لا يؤجّر فقط غرفة بمنزله لشاب غريب لا يعرفه، ولكن يؤجّر حياته كلها لمحاولة إعادة تشكيلها وصياغة علاقاتها.
ظاهرة مستمرة
لم يكن “للإيجار” فقط العمل الذي حقّق إيرادات هزيلة على مستوى الجماهيري رغم حصدها جوائز المهرجانات، فسبقته أعمال وقفت وراءها أسماء كبيرة على مستوى التأليف والإخراج والتمثيل مثل فيلم “الماء والخضرة والوجه الحسن” بطولة ليلى علوى، منة شلبي، باسم سمرة، ومن تأليف أحمد عبدالله، وإخراج يسرى نصرالله، وعرض في مهرجاني تورنتو بكندا ولوكارنو بسويسرا ولم يحقّق بمصر سوى 96 ألف دولار.
وتتضمّن القائمة المصرية التي لاقت المصير ذاته أعمالا مثل “قدرات غير عادية”، و”فتاة المصنع”، و”نوارة”، و”قبل زحمة الصيف”، و”من ضهر راجل” و”الليلة الكبيرة” و”حب” و”يوم الدين”، ما جعل الكثير من المنتجين يتحاشون إعادة التجربة في نوعيات الأعمال التي تقترب من طريقة المهرجانات خوفا على أموالهم.
وابتعدت الفنانة ليلى علوي نحو خمس سنوات كاملة عن السينما بعد مشاركتها في تجربة “الماء والخضرة والوجه الحسن” لتعود في الصيف الحالي بتجربة كوميدية صرفة حملت عنوان “ماما حامل”، حقّقت في ثمانية أيام فقط أكثر ممّا سجلته تجربتها السابقة التي كانت أكثر جودة على مستوى التمثيل وقوة القصة وحبكتها.
ويرجع الفنان خالد الصاوي عدم التوفيق الذي صاحب تجربته السينمائية الجديدة “للإيجار” إلى عدة عوامل متداخلة بين الدعاية الجيدة وأسماء المشاركين التي لا تتضمن نجوم شباك يجذبون الجمهور في ظل جائحة كورونا التي قلّصت من الحضور الجماهيري للسينما.
وتغوص الأعمال التي تريدها المهرجانات في عوالم عديمة الإنسانية أو مليئة بها في حكايات عن المهمشين الذين يعيشون في الظل مع أحلامهم وطموحاتهم، تفضل أنماط الحياة في المدابغ والأحياء المتقادمة عن مطاردات الشوارع وتلاطم الأمواج على الشواطئ، واهتزاز النخيل وألحان الطيور في مجتمعات الأثرياء المغلقة.
وقال خالد الصاوي لـ”العرب” إن المحك عنده في أي عمل هو قدرته على جعل الدور مهما كان كبيرا أو صغيرا ذا قيمة، فلا يعتدّ بنجاح العمل أو قبول الناس له، والأهم ألاّ يقدّم شيئا يخجل منه، والكثير من أعماله التي لم يكتب لها النجاح في شباك التذاكر، ظلت مستمرة مع الجمهور في العرض التلفزيوني.
غياب البوصلة
يعزو الصاوي المشكلة إلى افتقار السوق السينمائية بمصر للبوصلة، فالمحرك الأول لها هي دور العرض التي يجب زيادة أعدادها بطريقة المجمعات في جميع الأحياء بتوفير أماكن بسيطة للعرض بما لا يخل بالكرامة الإنسانية في المشاهدة وتصلح للمسرح والسينما، ما يرفع ذائقة الجمهور ويسهم في مواجهة الجهل وتجفيف منابع الإرهاب.
ولا تزيد أعداد دور السينما بمصر، والتي يتجاوز عدد سكانها مئة مليون شخص، حاجز 430 دار عرض، بما يعادل دار عرض واحدة لكل 6.4 مليون مواطن، كما تفتقر محافظات كاملة في الدلتا والصعيد لوجود دور سينما، ما يحرم المنتج السينمائي من وجود المنافذ الأساسية لترويجه.
وتتّسم طبيعة المشاهدة في مصر بالانتقائية والتحيّز لأسماء بعينها من الممثلين، فكثيرون لا يزورون السينما إلاّ حال عرض أفلام للممثل الذي يعشقونه بصرف النظر عن جودة أعماله أو ما تتضمنه المقاطع التشويقية له، ويكفي المقطع الدعائي لفيلم تامر حسني الجديد “مش أنا” للتدليل على ذلك بعدما حقّق 12 مليون مشاهدة على موقع يوتيوب في أسبوع واحد، مع إبداء الآلاف انتظارهم لمشاهدته بفارغ الصبر.
ويعتبر الصاوي أن انتشار دور السينما الصغيرة سيجعل كل فيلم سينمائي يجد جمهوره مهما تضمنت قصته من أفكار مغايرة ولو وصلت إلى الجنون، والمقياس الحقيقي لخيارات الجمهور في المشاهدة وعودة قوتها الناعمة تمرير رسائل اجتماعية أو وطنية للمواطن تسهم في تغيير سلوكه نحو الأفضل.
ويصطدم وصول أفلام المهرجانات إلى الجمهور بأهداف المشاهد المصري من السينما، فهي تمثل له نزهة يتحرّر فيها من ضيق المنازل وضغوط الحياة لتكون فرصة للضحك أو الاستمتاع بأعمال الحركة والمعارك أو تحرير كميات من هرمون الأدرينالين في جسمه مع المشاهد المفزعة بأعمال الرعب، لكنه لا يريد أن يدفع ثمن تذكرته في متابعة تدفقات من الحزن والمأساوية التي تذكّره بواقعه الصعب.
وتتطرّق الأعمال “المهرجانية” مهما ضمت من الكوميديا إلى مشكلات اجتماعية كالمرأة المعيلة والبطالة والفقر وفقدان الأمل والتناحر الطبقي الذي يجعل الطبقات الكادحة تغمس الهوان مع فتات الطعام المتساقط من أطباق الطبقات الواقعة في أعلى السلم الاجتماعي.
وأكّد الناقد الفني أحمد سعدالدين لـ”العرب” أن المشكلة في الأفلام غير التجارية تكمن في اهتمام المخرجين الكبير بالجوانب الفنية والسعي لتقديم رؤية مغايرة تلقى صدى عن النقاد والمحكمين في المهرجانات، لكنها لا تجد الصدى نفسه عند الجمهور، فتصبح موجهة للنخبة وعددها لا يحقّق الإيرادات المطلوبة في شباك التذاكر.
وربما يحمل المخرج المصري يوسف شاهين الصدارة في تلك النقطة، فغالبية أعمال السيرة الذاتية التي قدّمها وتم عرضها في محافل عالمية مثل مهرجان كان نالت جوائز، لكن الجمهور لم يستطع التقاط الفحوى من العمل أو بعض الجوانب الغامضة التي يتضمنها رغم تقديره الشديد لفنه، ولم تحقّق أعماله إيرادات جيدة، باستثناء فيلم “هي فوضى” الذي تعاون فيه مع المخرج خالد يوسف وحقّق نحو مليوني دولار لاقتراب قصته وطريقة تصويره من المشاهدين.
وأضاف سعدالدين أن إنتاج عمل غير تجاري ناجح مع الجمهور أمر قابل للتحقيق، ونجحت فيه أسماء، مثل عاطف الطيب ومحمد خان وداود عبدالسيد والأخير بالذات تمثل تجربته في فيلم “الكيت كات” مرجعا يمكن الارتكاز عليه، بعدما قدّم توازنا بين الرؤية الفنية المغايرة على مستوى الصورة والتصوير داخل حي شعبي بالجيزة، وفي ذات الوقت قدّم مضمونا جذابا للجمهور يمكن التقاطه وتذوّقه بسهولة.
ولا تمثل جميع الأعمال المشاركة في المهرجانات القصص القوية والرؤية المغايرة تماما التي تتطلبها، فمع قصور الإنتاج ونقص عدده يضطر القائمون عليها للقبول ببعض المستويات الأقل من أجل حفظ ماء الإنتاج المحلي، لكن مهما كانت الجودة والجوائز يظل الجمهور هدفا يجب وضعه في الحسبان في التجارب المستقبلية والوصول إلى مزيج سينمائي يحمل مزايا العمل التجاري وغير التجاري معا.