حرب تونسية باردة ضد الفوضى الاقتصادية

اليوم والتونسيون يقفون على أعتاب عام جديد مع اقتراب الذكرى الثامنة للإطاحة بنظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، بدأت علامات الاحتقان الاجتماعي تظهر في معظم جهات البلاد، بسبب إعادة من هم في السلطة نفس أخطاء من سبقوهم عبر إدارة ظهورهم لجوهر المشكلة وسعيهم للتملص من المسؤولية والغرق في صراعاتهم التي لم ولن تنتهي قريبا.
لا يوجد ما يوحي منذ تولي الحكومة بقيادة يوسف الشاهد السلطة قبل أكثر من عامين بأنها تسارع الخطى نحو محاصرة الفوضى الاقتصادية، التي دمرت حياة التونسيين، فحرب الإصلاح باردة وأكبر دليل على فشل سياساتها الإصلاحية هو المؤشرات السلبية.
التونسيون أطلقوا صافرات الإنذار مرة أخرى من تكرار سيناريو اليونان في حال استمرت الحكومة في سياساتها المرتبكة واتخاذ مبادرات لا تساعدها في إخراج البلاد من أزمتها الاقتصادية، خاصة وأن الشكوك تحاصر كل الأرقام الرسمية التي تفيد بأن سحابة الانكماش بدأت في التلاشي تدريجيا.
السؤال الوحيد الذي يتداول في الشارع التونسي، حاليا، هو إلى أين تسير تونس وسط ألغام التضخم وانزلاق الدينار وتفشي الفساد والاحتجاجات المتواصلة وتوقف إنتاج بعض القطاعات الاستراتيجية، وأولها الفوسفات، والاتساع المتواصل للعجز التجاري وشح السيولة النقدية من السوق.
هناك شبه إجماع داخل الأوساط الاقتصادية والشعبية على أن تونس تتجه نحو الفوضى الاقتصادية أكثر من أي وقت مضى بعد أن اتسعت في الفترة الأخيرة دائرة الانتقادات على تدهور الظروف المعيشية، وأن إمكانية تهدئة تحركات الطبقة الفقيرة قد تكون أصعب من السابق، رغم تفاؤل البعض بإمكانية لجم الشارع قبل أن تكبر كرة الاحتجاجات.
في ظل تفاقم المتاعب المعيشية المتواصلة للمواطنين بشكل هو الأسوأ حتى من “ثورة الخبز” في ثمانينات القرن الماضي، لا يمكن القول إلا أن الحكومة تتجاهل أو تتناسى عمدا أن النمو هو صمام الأمان لحالة الاستقرار الاجتماعي، فرغم الوعود بإصلاح الأوضاع سريعا، إلا أنها لم تخرج من دائرة المسكنات.
خروج شريحة واسعة من المواطنين في معظم ولايات البلاد إلى الشارع للتعبير عن سخطهم تجاه ما آلت إليه الأوضاع من سوء، دليل قاطع على أنهم ملوا تسويفات الحكومة بإخراج الاقتصاد المنهك من سباته وفق خطتها الإصلاحية الموعودة خاصة مع عجزها الواضح عن السيطرة على جنون الأسعار المتصاعد.
إن مخاطر دخول البلاد في أزمات اقتصادية جديدة في عام 2019 باتت أكبر مع استمرار تأجيل الإصلاحات الواقعية، التي من المفترض أن يتم تنفيذها دون خوف وخاصة مع بدء العد التنازلي للانتخابات الرئاسية، حيث يكون في التونسيين مجرد غنيمة للأحزاب لكسب أصواتهم.
الأرقام الرسمية للبنك المركزي تؤكد استمرار تآكل احتياطات العملة الصعبة نتيجة اتساع العجز التـجاري، الذي بلغ 5.7 مليارات دولار، وهو دليل آخر على سوء السياسات الراهنة في ما يتعلق بتعزيز الصادرات خاصة بعد أن علقت الحكومة قبل أيام الإجراءات، التي أعلنت عنها العام الماضي بوقف استيراد حزمة من السلع غير الضرورية.
لقد دمر تدهور قيمة الدينار أمام العملات الأجنبية بعد أن تجاوز اليورو مطلع هذا الأسبوع حاجز 3.4 دنانير، بينما اقترب الدولار من حاجز الثلاثة دنانير ما تبقى من القدرة الشرائية للتونسيين وأصبحوا في أزمة أعمق لا يمكن لأحد التنبؤ متى ستنتهي.
ضغوط التضخم لا تزال ممكنة على الأرجح خاصة في ظل استمرار انزلاق الدينار، الذي أدى إلى ارتفاع قيمة الصادرات في الفترة الأخيرة. وقد أرجع المركزي تراجع قيمة العملة المحلية إلى المدفوعات الكبيرة بالعملة بالدولار واليورو لتوفير المخزونات اللازمة من الطاقة والمواد الغذائية الأساسية والمواد الأولية التي تدخل في القطاع الصناعي وتأمين النشاط التجاري، فضلا عن خدمة الديون المرتفعة.
معاناة التونسيين لم تنته عند ذلك الحد، فمن التداعيات المزعجة للحرب الاقتصادية الباردة لحكومة الشاهد
ولادة طبقة ذات ثراء فاحش تحركها لوبيات الفساد المتغلغلة في كل مفاصل الدولة، وبالتالي فإن الحديث عن وجود حرب ضد الفاسدين كلام ليس له معنى لسبب بسيط وهو أن ظاهرة التهريب والأسواق الموازية لا تزال مزدهرة إلى اليوم.
هذه الوضعية المقلقة أفرزت خارطة اجتماعية جديدة في تونس أقصت منها الطبقة الوسطى بشكل نهائي بعد أن كانت في السابق محرار التوازن الاجتماعي. ويبدو أن الأمور ستزداد سوءا مع تجميد الأجور في القطاع العام وعدم ممارسة ضغوط على القطاع الخاص لزيادة الأجور.