حديث الأطفال ليس دائما ثرثرة بلا معنى

يؤكد استشاريو العلاقات الأسرية ضرورة إنصات الأسرة لأحاديث أطفالها حتى ولو كانت مجرد ثرثرات أو إشارات، فهي دائما ما تكون ذات معنى. كما أن تجاهلها يعمق الانعزالية والهشاشة لدى الطفل.
القاهرة - على خلاف النظرة السائدة للثرثرة الطفولية وارتباطها بالإزعاج، تستطيع الأسرة بسهولة تحصين أبنائها من أزمات نفسية ومجتمعية عديدة، إذا ما أنصتت إليهم، ومنحت حديثهم الانتباه والعناية اللازمين، وتمكّنت من فك شفراتها للوصول إلى أزمات نفسية وليدة، وشجعتهم على صوغ أفكارهم والتعبير عنها، بعدما كشف الطب النفسي أن غالبية أمراض البالغين ضربت جذورها في الطفولة.
يعمق الإرث المجتمعي عربيا هزلية أحاديث الأطفال ومشاعرهم، و يُترجم ذلك في موجات من التهميش، أو إنصات لحظي غير مدرك لما يمكن أن تحمله عبارات تبدو “ثرثرة طفولية فارغة” من مشاعر وأزمات يتعرض لها الطفل، وينتج عن تجاهلها تعميق الانعزالية والهشاشة لدى الطفل، ما يجعله فريسة سهلة للكثير من الأمراض والأزمات النفسية التي لا تكتفي بمرحلة الطفولة.
اعتقدت آلاء محمد (27 عاما) أن نجلها صاحب الأربعة أعوام غير مكترث بعمل والده في الخارج، والذي بموجبه تقتصر عملية التواصل بينهما (الأب ونجله) على شاشة الهاتف، أو خلال عطلات قصيرة يقتطعها الأب بين حين وآخر.
وقالت آلاء لـ”العرب” “لم يكن يتحدث عن غياب والده أو اشتياقه له، بل على العكس كان عادة ما ينهج سلوكا سلبيا غير متحمس عند محادثته على الهاتف، وكذلك خلال زيارات والده، أو حينما يحين موعد سفره مجددا”.
لا يحظى كافة الأطفال العرب بأسر متفهمة لأهمية أحاديث الأبناء بحيث تتخذ مواقفها بناء على ثرثرة عابرة لطفل، فعادة ما تقلل الأسر من أهمية وخطورة تلك الثرثرات
وأضافت “ذات يوم سألني لماذا لا يأتي بابا ليعيش معنا؟ وحاولت أن أشرح له ضرورة سفره لتوفير ما يحتاجه وأشقاؤه من مال، لكنه رد ليأت ويعمل هنا كما يفعل خالي ويعيش معنا”.
لاحظت السيدة التأثر الشديد في حديثه وأدركت للمرة الأولى خطأ اعتقادها السابق، وترجمت تصرفاته الانعزالية وغير المبالية السابقة على أنها نوع من العقاب المتبادل من وجهة نظره، فهو يرى أن والده يعاقبه بغيابه فيرد الابن بمعاقبته بلا مبالاته. وعلى ذلك قررت العمل على جمع شمل أسرتها، والسفر إلى زوجها في الخارج حرصا على نفسية صغارها.
ولا يحظى كافة الأطفال عربيا بأسر متفهمة لأهمية أحاديث الأبناء بحيث تتخذ مواقفها بناء على ثرثرة عابرة لطفل، فعادة ما تقلل الأسر من أهمية وخطورة تلك الثرثرات، بل وتحاول دفعهم إلى الصمت تقليلا للإزعاج.
ولا تخلو أسرة عربية تقريبا من ترديد عبارة “حينما يتحدث الكبار يجب أن يصمت الأطفال وينصتوا”، كبطاقة حمراء لطرد الطفل من أي نقاش حتى إذا كان يدور حوله، وينتقل الحوار إلى توجيهات أبوية سلطوية.
تشير استشاري العلاقات الأسرية والطب النفسي بالقاهرة، هالة حماد، إلى خطورة تجاهل أحاديث الطفل والتأثيرات المرضية التي يمكن أن تنتج عن ذلك، قائلة لـ”العرب”، “إذا كان على الأطفال أن يصمتوا عندما يتحدث الكبار، من نظير احترام حديث الآخر وعدم المقاطعة، فيجب في المقابل أن تستكمل العبارة داخل المنازل، وعندما يتحدّث الأطفال يجب أن يصمت الكبار وينصتوا”.
وتقول “حتى الأطفال الأقل سنا ممن تقتصر حصيلتهم اللغوية على كلمات معدودة، يجب العناية بإشاراتهم، فدائما ما تحمل رسالة يريدون أن يوجهونها عن شعور ينتابهم أو عارض ما، كما أن الإنصات الدائم وتصحيح أحاديثهم وفتح نقاشات معهم يحسّن قدراتهم الكلامية وتعبيرهم عن ذواتهم، ما ينعكس في بناء شخصية واثقة من التعبير عمّا تتعرض له ويصبح ذلك نظام حماية داخلي”.
عملت منظمات تنموية على نشر شعار “المساحات الآمنة للبوح” على هيئة “ورش حكي” يجتمع فيها أشخاص في الغالب لا يعرفون بعضهم بعضا، بهدف أن يروي كل منهم عن نفسه، أزماته ومشاكله ومواقفه التي يراها المجتمع “مخجلة".
تسعى فلسفة الحكي إلى توطيد ثقة الشخص في نفسه، ومصالحته على ذاته، ليتقبّل الأخطاء كما الحسنات، ضمن جو تغلفه الألفة، ويترفّع المشاركون فيه عن إطلاق الأحكام النمطية، مقابل مساحات من تقبل الآخر وتقديم الحب والدعم.
وركزت هذه الورش جزءا من مجهوداتها على الأطفال، لغرس ثقافة الحكي داخلهم، ما يوفر دعما آنيا وحصانة مستقبلية، واستجابوا سريعا لتلك الآلية وتفاعلوا معها.
وأكد المخرج المسرحي ومؤسس “بيت الحواديت” (فاعلية للحكي) محمد عبدالفتاح لـ”العرب” أن ورش الحكي وحدها لا يمكن أن تكون علاجا لأزمات نفسية، إلا إذا ضمت متخصصا قادرا على التشخيص والمساعدة، وهي في الأساس طريق لتعبير الشخص عن ذاته واستعادة ثقته في نفسه.
وأضاف، الأطفال على رأس المستهدفين من تلك الورش لتأثيراتها الإيجابية، فضلا عن تفاعلهم الذي يتجاوز في بعض الوقت تجاوب الراشدين، وجال بتلك الورش في محافظات عدة، بعضها تطور إلى عروض مسرحية أبطالها هؤلاء الأطفال ومادتها قصصهم.
وأوضحت الناشطة في المجتمع المدني والدعم النفسي، آيات محمد، لـ”العرب” أن ورش الحكي قادرة على تغيير سلوك الأطفال والكشف عن الأزمات المستقبلية التي يمكن أن يتعرضوا لها بفعل البيئة المحيطة.
وذكرت آيات عن كريمة، أنها طفلة ذات 6 أعوام شاركت في معسكر أعدته منظمة كير الدولية للأطفال خلال العطلة الصيفية، وتضمنت فعالياته ورش حكي.
حضرت كريمة إلى المعسكر بجلباب (عباية) ملفوفة في طرحة كبيرة بما لا يتناسب مع عمرها، وخلال الورشة قاطعت كريمة آيات، لتسألها عن البنطال الذي ترتديه بصيغة مستهجنة.
وبعد الورشة تحدثت مع كريمة حول البنطال وكيف أنه مناسب للفاعلية ليوفر حرية أكبر في الحركة، وفضفاض وغير ملفت، ونبهتها إلى ضرورة عدم تصنيف الأشخاص والحكم عليهم من ملبسهم.
وحضرت كريمة إلى المعسكر في اليوم التالي مرتدية بنطالا وقميصا يلائم عمرها، وأخبرتها أنها طلبت من والدتها ارتداء ذلك على اعتباره يمنحها حرية أكبر في اللعب والجري.
وتعلّق مدربة الدعم النفسي، “اعتبرت أن نجاحي في تغيير سلوك طفلة نشأت في بيئة متشددة زرعت فيها أفكارا تصنيفية حول الملبس، دليل على حيوية الورش، وصياغة أفكار الأطفال والتأثير في سلوكهم”.
تبدأ ورش الحكي بسؤال الأطفال عن مشاعرهم أو أي أحاديث يرغبون في مشاركتها مع الحضور، وتختلف الاستجابة على ما يترجمه المدربون في تقييم مساحات الحكي المتاحة لهؤلاء الأطفال داخل منازلهم.
ويدل أصحاب الاستجابة السريعة على تعودهم على الحكي والاستماع لهم داخل منازلهم، عكس الأطفال المتخوفين ممن يرغبون في عدم المشاركة.
ويعدّ تكتيك الحكي وسيلة لتفريغ شحنات العنف داخل الأطفال وصوغ أفكار تحررية حول المستقبل، وشحذ الخيال مقابل انقباض الواقع، لذا نشطت الورش التي تعتمد على أسلوب الحكي بين النازحين من قبل المنظمات الدولية.
وذكرت الناشطة آيات محمد لـ”العرب”، أنها شاركت في ورش حكي للأطفال السوريين وأخرى للمصريين، والنتيجة أن التفاعل لدى الفريق الثاني في المناطق الشعبية الفقيرة، يتجاوز أطفال النازحين بصورة لافتة.
وتُرجع آيات ذلك، إلى افتقار الأطفال المصريين إلى تلك الفعاليات وتعرضهم لضغوطات نفسية ومجتمعية لا تقل عن النزوح، “الفارق أن النازحين يلقون الدعم والانتباه الدولي، ويخضع الآخرون لأنماط كارثية في التربية والنشأة”.