حتى يؤسس الخليج للواقعية الاقتصادية

عندما هبت رياح الحرب الروسية في أوكرانيا، لم يستبعد أحد أن تمتد تفاعلاتها لتعكر صفو الرخاء الاقتصادي العالمي. ذلك ما حصل بالفعل، إذ قلة من الدول كانت بعيدة عن تلك الانعكاسات المدمرة، ومن بينها بلدان الخليج العربي، التي وجدت نفسها أمام فرصة ذهبية لا يمكن تضييعها هذه المرة للظفر بأكبر قدر ممكن من المكاسب متسلحة بشعار “مصائب قوم عند قوم فوائد”.
تواجه دول المنطقة أوضاعا اقتصادية مختلفة، ولكل منها فلسفته في كيفية اغتنام الفرص. وهذا مفهوم بالنظر إلى السياسة المتبعة في كل دولة، حيث لكل حكومة عقلية للتنمية مختلفة عن الأخرى، وتبدو الأفكار أحيانا مشوشة، وبالتالي، فإن التفوق الاقتصادي صيغة مفقودة.
دعك مما تقوله لنا التقييمات الأخيرة لوكالات التصنيف الائتماني من أخبار إيجابية عن الجدارة المالية للدول الست، حيث لا يمكن لأي محلل دقيق اليوم أن يتجاهل أن المؤشرات قد تنقلب بين عشية وضحاها تماما كما حدث في السابق.
◘ لا تكفي الحكمة الممزوجة بالواقعية التي تتوخاها مسقط اليوم بأن تحقق ما تصبو إليه، فهي تحتاج للانفتاح أكثر على أسواق العالم عبر القيام بثورة تشريعية تشمل كل مناحي الحياة
إذا، هل الخليج الذي اعتمد لعقود، ولا يزال، على مبدأ الريع قادر على أن يُفعل نشاطه الاقتصادي الكلي من خلال إستراتيجياته التنموية المتداخلة مع ما هو سياسي؟ ماذا عن الإنفاق وحوكمته؟ ثم ما هي الأرضية التي يمكن البناء عليها حتى تتمكن بعض دوله من إثبات أنها جادة في مسار الإصلاح؟
الرغبة في تجاوز أزمة الطاقة وسلبيات الاعتماد على النفط والغاز تدفع حكومات المنطقة لتركيز أوتاد أمتن لتجديد الروح لاقتصاداتها والتي كان يعوزها بعض الحنكة لتنفيذ أجنداتها التنموية بعد الأزمة المالية العالمية في 2008، وخاصة بعد أزمة “الخريف العربي”. وإن كان من السابق لأوانه الحكم على النتائج، لكن من المؤكد أنها ليست كافية.
العوائد الضخمة لتجارة الطاقة وبفضل سياسة أوبك+ أيضا، عززت الشعور بأن ثمة تحولا قد يحصل بالمنطقة بعدما تلمست الفوائض المالية طريق خزائن دولها، ما تجلى في إعادة شراء الحكومات لديونها قبل موعد استحقاقها.
نتلمس من المسؤولين أنهم في سباق لتصحيح خلل التوازنات المالية وإيقاف شيء اسمه عجز في الميزانية، مع العمل على وضع القطاع غير النفطي على السكة، والذي يفترض أنه من يقود الاقتصاد.
في الأفق المنظور لأسواق الطاقة، وما لم تحدث أي تقلبات جيوسياسية أخرى قد تربك عمليات الإمدادات أو تهوي بالأسعار، تبدو دول الخليج ميالة إلى زيادة الإنفاق التشغيلي والاستثماري وإعادة إطلاق مشاريع التنمية بهدف الحفاظ على معدلات نمو معقولة عبر تحفيز كل محركات النمو الممكنة، مع المضي في سياسة توطين الوظائف.
صُناع القرار أيضا يتنافسون لجذب الاستثمارات ذات القيمة المضافة وتمكين المرأة والتشجيع على الابتكار. والأهم أنهم بدأوا يدركون أن الضرورة تقتضي تعلم دروس الماضي بعدم الاتكاء على ما يجلبه بيع النفط والغاز، وذلك بجعل صناديقها السيادية ذات ملاءة مالية أقوى مما كانت عليه.
بغض النظر عما يفعله المسؤولون السعوديون والإماراتيون، على وجه التحديد، إذ لا يكاد يوم يمر وإلا نسمع عن خطط وإستراتيجية وطنية جديدة تشمل مناحي اجتماعية وتنموية وتكنولوجية.. تبدو دول أخرى في حاجة ماسّة إلى إزالة العراقيل المرتبطة بتداخل السياسة في الاقتصاد، واستعادة عقدها الاجتماعي المفقود حتى تُطلق العنان للتنمية الشاملة.
خذ مثلا الكويت، التي تعد أقدم دول المنطقة في ممارسة التجربة السياسية، باتت أمام اختبار حقيقي للحاق بالركب، وعليها أن تنجح فيه بعدما أمضت سنوات وهي تعيش على وقع تجاذبات تتجلى في العلاقة المضطربة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية والخلافات التي لا تنتهي بين الحكومة ومجلس الأمة على قضايا تُغلف بمصلحة الدولة، لكنها واقعيا ذات صلة بتصفية حسابات حزبية وأحيانا شخصية.
كثيرا ما أفضت المعارك ذات الطابع الفئوي الضيق إلى جعل الحكومات الكويتية لا تُعمر طويلا، وإلى حل البرلمان قبل أن يستكمل مدته، ما عطل الحياة العامة، وأضعف عملية اتخاذ القرارات الاقتصادية، وكبل عملية الإصلاح ومحاربة الفساد المستشري. واكتفت الدولة بما تجنيه من بيع نفطها وما تدره عليها استثمارات أسهمها في الخارج من إيرادات.
يمكن قياس تخلف الكويت، إن جاز التعبير، عن الركب قياسا بجيرانها الأكبر من حيث حجم الاقتصاد (السعودية والإمارات) خلال ما مرت به منذ الأزمة المالية العالمية مرورا بانهيار أسعار النفط منتصف 2014 ثم الأزمة الصحية، إذ أبانت تلك المشاكل أنها لم تحصّن نفسها جيدا لأوقات الطوارئ وتجلى ذلك في عجز مالي سنوي كبير مع جبل ديون اضطرت معه للسحب من صندوق الأجيال.
إن الإصلاحات المتبعة لم تكن متناغمة مع الأحداث الخارجية، كما أنها لم تكن مرنة لتحقيق الأهداف بعد مرور خمس سنوات عن إعلان “رؤية الكويت 2035”، في ظل الذهنية السياسية السائدة، ولذلك ستكون تكلفة الاستمرار في اتّباع نفس الفلسفة الاقتصادية والسياسية باهظة على البلاد عقب التحولات العميقة، والتي من المتوقع أن يحصل مثلها المزيد في قادم الأشهر.
أما في سلطنة عُمان، فالأمر يبدو أقل حدة، فمن خلال الضغط الذي يمارسه السلطان هيثم بن طارق على الحكومة للاستفادة بشكل أكثر كفاءة من ارتفاع أسعار الطاقة، فإنه ساعد بذلك في تخفيف القلق بشأن استقرار البلد، الذي يتمتع بموقع إستراتيجي حيوي.
◘ الرغبة في تجاوز أزمة الطاقة وسلبيات الاعتماد على النفط والغاز تدفع حكومات المنطقة لتركيز أوتاد أمتن لتجديد الروح لاقتصاداتها
مع ذلك فإن النجاح في توظيف تلك العوائد مسألة محاطة بالمخاطرة لأن مسار الإصلاح يسير على مهل حتى مع التقييمات الدولية الإيجابية التي تعكس عامل الاستقرار ومؤشرا للمستثمرين.
ستاندرد أند بورز عدلت مؤخرا تصنيف السلطنة من بي.بي سالب إلى بي.بي بفضل تحسن الأداء الخارجي والمالي مع نظرة مستقبلية مستقرة مع تقلص الديون وتحقيق فائض هو الأول من قرابة 9 سنوات أو أكثر، هذا أمر جيد. لكن لا يزال يتعين عليها القيام بالمزيد من العمل الهيكلي بما يعزز ترسيخ انخراط العمانيين أكثر في المشاركة في الشؤون العامة والاجتماعية والاقتصادية.
لا تكفي الحكمة الممزوجة بالواقعية التي تتوخاها مسقط اليوم بأن تحقق ما تصبو إليه، فهي تحتاج للانفتاح أكثر على أسواق العالم عبر القيام بثورة تشريعية تشمل كل مناحي الحياة، حيث أن حالة عدم اليقين المتنامية التي يشهدها العالم لا تزال تخيم على آفاق الاقتصاد العماني، إضافة إلى هيمنة مخاطر التطورات السلبية الخارجية على المدى القصير.
لذا، يتطلب الوضع لكلا البلدين، وربما أيضا لقطر والبحرين، بلورة مفاهيم أكثر فعالية تحدد مسارا جديدا يزيل التقاطعات بين السياسي المعرقل والاقتصادي المفيد، والذي يجب أن يكون بعيدا عن الممارسات الريعية المنتهجة منذ عقود.
بالتوازي مع ذلك لا بد من الاستئناس بنموذجي جارتيهما السعودية والإمارات اللتين استقلتا قطار المستقبل قبل الجميع، والذي ستكون أولى محطاته بداية العقد المقبل قبل التقييم ورسم رؤى جديدة عندما يكون فيه قطاع الطاقة محركا ثانويا في بناء الاقتصاد.