حتى الدراما والكتابة ساهمتا في تهميش المرأة

لم يتوقف الحيف يوما ضد المرأة العربية والأفريقية، بل أخذ أشكالا متعددة وصلت إلى تهميشها وتشويه صورتها. والأغرب أن من مارس هذا عليها، هو بعض قريناتها من النساء اللاتي يعملن في مجال الصحافة والإعلام وغيرها من الوسائل التي تهتم بتقديم صورة المرأة للآخر. كما ساعدت الدراما على تكريس هذا التنميط المشوه لصورتها السلبية، دون التركيز على النماذج الإيجابية والأدوار المهمة التي لعبتها تفوقت فيها على الرجل، وهو ما ساهم في تقوية مكانتها التي جردت منها بغير إرادتها.
لم تشهد وضعية المرأة في المنطقة العربية تحسنا في معاملتها كأنثى تختلف بيولوجيا عن الرجل، وإن كانت تشاطره الحقوق والاهتمامات الفكرية، إلا في فترات استثنائية، ما عدا ذلك فقد شهد تاريخ المرأة العربية (على امتداده) ظلما بينا، فأقصيت المرأة في الجاهلية عن الميراث بحجة أنه لا يأكل الميراث إلا من يقاتل. وهكذا استمر الإقصاء والتهميش على مختلف العصور لصالح قرينها الجندري/ الرجل، وهذه المفاضلة، غير العادلة، جاءت على حساب مكانتها الاحتماعية، باعتبارها في منزلة دونية منه.
واللافت أن التهميش والتشويه لم يقتصرا على المرأة العربية فقط، بل شمل أيضا المرأة الأفريقية التي تعرضت هي الأخرى للظلم بكافة أشكاله، سواء من قبل الحركات الإمبريالية أو الموروثات الثقافية أو حتى الذكورية. لكن الجلي من هذا التداخل أن علاقة المرأة العربية بالأفريقية تكاد تكون متداخلة، لعوامل كثيرة من أهمها الروابط الثقافية المشتركة بين الطرفين، وثانيا أن واقع مشكلات المرأة الأفريقية لا يختلف كثيرا عن واقع المرأة العربية، ومن ثم فالمسبب الرئيسي لما تعانيه المرأة (عربيا وأفريقيا) يكاد يكون واحدا، والأهم أن نظرة الإعلام للمرأة، مع الأسف، تنبع عن ذكورية مقيتة، وهي الموجه للرأي العام في تشكيل الوعي الجمعي إزاء قضايا المرأة.
المرأة وتحديات العصر
الكتاب يضع المرأة العربية والأفريقية تحت دائرة المساءلة والتقييم متناولا أبرز أشكال العطاء الإبداعي والمعوقات أمام النساء
عن علاقة المرأة بالصحافة تقدم الباحثة عواطف عبدالرحمن أستاذ الإعلام بجامعة القاهرة في كتابها “المرأة العربية والأفريقية وتحديات العصر”، الصادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، رصدا تاريخيا للتحديات التي تواجه المرأة العربية والأفريقية، وإن كانت تركز بصورة خاصة على المرأة الريفية (والصعيدية تحديدا)، دون أن تتوقف عند المعوقات فقط، بل تقدم رؤية مستقبلية بما يجب أن يكون في تعامل الإعلام مع صورة المرأة.
وفي محاولة منها لتقديم نماذج إيجابية للمرأة العربية، مقارنة بتلك التي رسمها الإعلام والدراما، رصدت لنشأة الصحافة النسائية في العالم العربي، وأهم القضايا التي انشغلت بها كدليل على اتساع أفق المرأة وأنها كانت صنوا للرجل في الاضطلاع بدور نهضوي وتنموي داخل مجتمعها.
وقد أثبتت أن مشاركة المرأة المصرية في الصحافة كانت أسبق عن كل الميادين، فمنذ ثورة 1919 احتلت الصحافة النسائية موقعها المؤثر على ساحة العمل الإعلامي مصريا ثم عربيا على امتداد العقود الأربعة الماضية، فظهرت أسماء رائدات في المجال الصحافي مثل: هند نوفل (1891)، ولبيبة هاشم (1906)، وتفيدة علام (1908)، وغيرها من أسماء كمي زيادة وجميلة حافظ، وفاطمة نعمت راشد، وأسماء فهمي، وسهير القلماوي، وبنت الشاطئ، وفاطمة اليوسف. ومع بداية القرن الماضي شهد العالم العربي ظهور الصحافة النسائية، وكانت البداية في لبنان ثم سوريا 1910. ولئن انشغلت الصحافة المصرية بقضايا تعليم المرأة، فإن الصحافة اللبنانية انشغلت بترقية المرأة ثقافيا، أما في سوريا فانصب اهتمام الصحافة على القضايا الأسرية.
ومع بداية الخمسينات بدأت الصحافة النسائية تدخل بلادا عربية كثيرة، وشهدت هذه الفترة المراوحة بين الاهتمام بالقضايا التقليدية والمطالبة بتعليم المرأة ودخولها سوق العمل، وواكب هذا نهضة أدبية نسائية، فظهرت مجلات نسائية تهتم بدور المرأة السياسي والتنويري، كما ظهرت مجلات تعكس واقع النضال الفلسطيني وبيان دور المرأة، واهتمت الحكومات بدعم هذه المجلات. أما في حقبة الثمانينات فقد تعد حقبة التجارب الجادة والراديكالية في تاريخ الصحافة النسائية فظهرت مجلات نون في مصر، ونور وعفاف في لبنان. لكن هذه الطفرات شابها انحسار وتوقف في حقبة التسعينات، والمجلات التي ظهرت ركزت على الاهتمام بالمرأة والأسرة العربية على نحو ما فعلت مجلة نصف الدنيا (مصر).
هذا الرصد التاريخي لواقع الصحافة النسائية جعلها بصيرة بأهم التحديات التي كانت عقبة (ومازالت) تواجه الصحافة النسائية، وتجملها في ثلاثة تحديات: أولها الموروث التاريخي الذي فاقم من التفرقة الجندرية، وهو ما كان له تأثيره الكبير في العقل الجمعي في المجتمعات العربية، وهو ما أعطى هيمنة، غير مبررة، للرجل على حساب المرأة، وهو ما استغله المروجون للعولمة في تسليع المرأة واستثمارها كمادة إعلامية جذابة وكقوة عمل رخيصة.
عواطف عبدالرحمن: الثقافة الذكورية وقد اتكأت على موروثات ثقافية تعلي من قيم الذكر مقابل دونية المرأة
التحدي الثاني متعلق ببيئة العمل الصحافي، وفي المجمل يمكن وصفها بأنها غير صحية بامتياز، أما التحدي الثالث والأخير فيتمثل في افتقار الصحافيات العربيات للوعي والتخصص، وهو ما أسهم بشكل سلبي في خضوعهن للقيم التقليدية المهيمنة على المجتمعات. كما تلاحظ ثمة تباين بين المراحل التي ساد فيها الإبداع الفردي، وبين المشاركة الجماعية، ففي الأولى طرحت القضايا الجوهرية، أما في المرحلة الثانية فدخلت مؤثرات سلبية مثل تقليد التيارات النسوية الغربية، وترسيخ صورة المرأة التلقيدية كعنصر استهلاك، وهو ما نتج عنه عدة معوقات منها؛ سيطرة الموروثات التاريخية والدينية، وغياب الديمقراطية، والنظام التعليمي المزدوج، وسيطرة أيديولوجية السوق من خلال الإعلانات.
وتضع عبدالرحمن المرأة العربية والأفريقية تحت دائرة المساءلة والتقييم، فتتناول أبرز أشكال العطاء الإبداعي والإنجازات والمعوقات التي تعترض مسيرة “تقدم” المرأة العربية والأفريقية.
وأولى الإشكاليات التي تبرزها في الصدارة متعلقة بموقف الإعلام من قضايا المرأة في ظل فقدان مؤسستي المدرسة والأسرة لو ظائفها، بالإضافة إلى تداعيات تأثيرات العولمة السلبية، وتتساءل أيضا “هل يكتفي الإعلام برصد الواقع النسائي بسلبياته وإيجابياته؟ أم يسعى متعمدا إلى الترويج لمنظومة القيم الاستهلاكية من خلال استغلال المرأة في الإعلانات والدراما على حساب التراث العلمي والثقافي؟ أم يحاول إبقاء المرأة أسيرة التفسيرات الذكورية المغرضة للنصوص الدينية المتعلقة بالنساء على حساب حقوق المواطنة؟”، كما تتساءل الدراسة، في أحد أوجهها، عن أسباب تجاهل المرأة المستنيرة، والتركيز على صورة المرأة النمطية (السلبية)، وبالمثل إغفال الإعلام للمرأة الجامعية (الأستاذة والطالبة والإدارية).
ومن هذا الطرح تستهدف الوصول إلى علاج العقبة الأساسية في سوء الفهم التي تبرز كأحد أهم المعوقات التي تحول دون وصول المرأة إلى مكانتها التي تستحقها، وهو ما يبرز في تساؤلها: كيف نستطيع خلق وعي حقيقي بقضايا ومشكلات المرأة والأسرة العربية؟
اللافت أن الخبيرة بشؤون الإعلام لا تترك أسئلتها مفتوحة، بل تقدم إجابات وتطرح رؤى بديلة، فتجيب بأن هذا الأمر لن يتحقق إلا بضرورة إنتاج خطاب إعلامي جديد يستهدف تحرير العقل الجمعي من النساء والرجال، برفض خطاب الاستبداد الذي يكرس لفكرة النقص الأنثوي مقابل التفوق والهيمنة الذكورية.
لذا ترى من الضروري طرح خطاب إعلامي بديل عن المرأة، يعبر عن احتياجاتها من وجهة نظر نسائية، متجاوزا للتفسيرات الذكورية المرتكنة لموروثات ثقافية ودينية تحط من قيمة المرأة لحساب تفوق الرجل، وكذلك خطاب إعلامي بديل عن العنف الأسري يسعى إلى تغيير كافة المفاهيم السائدة (وفي الوقت ذاته مغلوطة) عن العنف الأسري والمجتمعي، وإحلال مفاهيم جديدة عن العنف متمثلة في استخدام بدائل أكثر فاعلية عن العقاب، مثل العقاب الإيجابي والسلبي، وتنمية قدرات الفرد من أجل التفاوض، وغيرها من وسائل تخفف من حدة العنف كالرياضىة والأدب والفن والأنشطة الاجتماعية والعلمية. ومنها أيضا تعديل المفاهيم السلبية غير المنصفة السائدة عن المرأة، وتفعيل منظومة الحقوق الأساسية للأسرة، وهو ما يتطلب أولا تعديل المفاهيم الذكورية السائدة عن الحقوق والمسؤوليات داخل الأسرة.
الكتاب يجمع بين دفتيه الدراسات التحليلية والدراسات الميدانية المسحية، والتجارب الشخصية سواء عن السجن، أو في علاقتها بجمال عبدالناصر ودوره، المباشر وغير المباشر، في ترسيخ قيم الثقافة والتعليم وتنمية الوعي في مناطق أكثر فقرا، والمقاربات الشخصية الناتجة عن رحلات قامت بها، وشهادات عن تجارب بلاد زارتها من أجل الدفاع عن قضايا المرأة عربيا وأفريقيا، وكذلك للمشاركة في فعاليات عن الثورة المصرية مقارنة بثورة الياسمين (في تونس)، وأحيانا من أجل الدفاع عن القضية الفلسطينية ضد مغالاة الصهيونية.
وتفتح عبدالرحمن قوسا كبيرا، وتضع المرأة العربية والأفريقية في بؤرة السؤال والمساءلة، وبقدر ما تسعى لإبراز الأدوار الحقيقية التي لعبتها المرأة على المستويين (العربي والأفريقي) بما فيها التضحية بالذات وتحمل ويلات الاعتقال والسجون كما حدث لنساء زيمبابوي، وكذلك التضحيات التي قدمتها النساء الأفريقيات في سبيل النضال على نحو ما فعلت سالي موجابي، وونجاري ماتاي، وويني مانديلا، والأخيرة تخلت عن زواجها من أجل كرامة وسيادة وطنها الأفريقي.
موروثات قاتلة

في مقابل الأدوار المهمة ثمة نكوص إعلامي وتحيز ضد المرأة وأدوارها، ومن ثم نرى أن المؤلفة لا تهادن في إدانة الرجل (أو بمعنى أدق ذكوريته) وممارساته الإقصائية التي جعلت من المرأة تابعا له وخلقت تحيزات مقيتة ضدها، وهو ما انعكس بالسلب في حرمان المجتمع من جهد ومشاركة النصف الفعال من مواطنيه (أي المرأة)، وهو ما أدى، تلقائيا، إلى خلل مجتمعي وظلم إنساني مقيت! بل وصلت الإدانة إلى حقب سحيقة؛ حيث منعت المرأة من التعلم على نحو ما أشهرت الذكورية في الجاهلية قانونها المجحف “لا تعلموهن الكتابة”.
وترى أن الثقافة الذكورية وقد اتكأت على موروثات ثقافية تعلي من قيم الذكر مقابل دونية المرأة، قد تغلغلت وأصبحت جزءا عضويا من النسيج الثقافي والاجتماعي والأخلاقي منذ عصر الصيد وصولا إلى عصر المعرفة والمعلومات مرورا بعصري الزراعة ثم الصناعة. وإن كانت لا تفصل بين القهر المجتمعي الذي يمارس على المرأة، وقهر السلطة السياسية وتغولها، وهذا الترابط اختزل مكانة المرأة المجتمعية وقيمتها في جسدها الجاذب، مقابل تغييب السياق الإنساني الطبيعي للمرأة.
وقد ترتب على هذا تراجع دور المرأة بسبب خفوت حركات الاحتجاج، وانضواء النساء الأديبات تحت الثقافة الذكورية درءا للمخاطر، نهاية بالدور السلبي المتمثل في انكفاء غالبية النساء على أدوارهن التقليدية، كأوعية للإنجاب وأدوات لخدمة الذكور وإمتاعهم.
وتفرد عبدالرحمن مبحثا مهما عن الدراسات الأكاديمية (وغير الأكاديمية) التي انشغلت بقضايا المرأة وأبعاد صورتها، مبرزة أهم النتائج التي خرجت بها هذه الدراسات، وقد جاءت الدراسات في أربعة أنواع كالتالي: دراسات اهتمت بقضايا المرأة كما يعكسها مضمون وسائل الإعلام، وقد كشفت هذه الدراسات عن اهتمام شكلي بالقضايا الجوهرية، فالإعلام بكافة وسائله (صحافة، سينما، إذاعة وتلفزيون) ركز على المشكلات الاجتماعية، في حين أغفل القضايا الصحية (الوعي الصحي، التأمين الصحي، السلوكيات الصحية، البيئة الصحية)، أما القضايا السياسية التي تبرز مدى جدية تمكين المرأة على نحو ما تدعو القيادات السياسية، فجاءت في مرتبة ثانية أو ثالثة، وبالمثل تلتها القضايا الاقتصادية ومتعلقاتها من عمل المرأة وترشيد الاستهلاك وتدريبها، والمشروعات الإنتاجية، ثم القضايا الثقافية.
علاقة المرأة العربية بالأفريقية متداخلة، لعوامل كثيرة من أهمها الروابط الثقافية المشتركة بين الطرفين وتشابه ما تعانيانه
أما عن المرأة في الصعيد فقد أبرزت الدراسات أن تركيز الإعلام جاء أولا كمتابعة لجهود الدولة ومؤسساتها المعنية بالمرأة، وليس كقناعة لسياسة تحريرية، وإن كان الإعلام انشغل بقضايا متعلقة بالعنف وختان الإناث وتعليم المرأة والزواج المبكر وغيرها، وكان الاهتمام في الأصل نتيجة الوقوع في فخ التأثير الغربي دون قراءة الظواهر في ظل ظروفها الخاصة التي تختلف عن السياقات الغربية. كما تعيب إغفال الإعلام منظومة الموروثات الثقافية، وما تتضمنه من رموز وقيم إيجابية تعلي من شأن المرأة، وأدوارها الأسرية والمجتمعية.
أما الدراسات التي اهتمت بإبراز أبعاد صورة المرأة في وسائل الإعلام، فكشفت عن صورة نمطية مازالت مهيمنة على الخطاب الإعلامي، كما هو واضح في التمثيلات المتكررة عن المرأة الخائنة والعاشقة والقاتلة والانتهازية والمتسلطة إلخ، والأهم أنه يسعى لتكريس أن الصراع بين المرأة والرجل في إطار الأسرة، وأن المرأة هي سبب الصراع، كما قدمت المواد الإعلامية المرأة كسلعة؛ أي أنها مخلوق سلبي ضعيف وغير قادر على اتخاذ القرارات، إضافة إلى اهتمامها بالمظاهر والشكليات.
وقد أشارت الدراسات إلى أهمية الدراما التلفزيونية باعتبارها قوة ثقافية مؤثرة في بناء الصورة الذهنية، وإن كانت غلبت الصورة السلبية في تقديمها، ومالت إلى التحيز ضدها. وعن الصورة الذهنية للمرأة لدى الجمهور، كما تجلت في الدراسات، تراوحت بين الإيجابية والسلبية، ولئن ركزت على المرأة كأم وزوجة كصور إيجابية، فإنها على مستوى الصورة السلبية، أبرزت أن المرأة قلقة بشأن الزواج من الرجل؛ لذا تركز دوما على الجوانب الأنثوية كعنصر إغراء وجذب للرجل، وبالنسبة إلى المرأة في الصعيد والريف، فالتركيز كان على العادات والتقاليد، ودائما دور المرأة في الدراما والسينما ترفيهي وليس مؤثرا، وإن استحوذت على دور البطولة فهي دوما متسلطة وقوية لها رأيها الذي لا يخالفه الجميع، كما غابت المرأة المستنيرة المتعلمة التي تسهم في تنمية مجتمعها، والخلاصة أن المرأة في الصعيد، كما أبرزتها الدراما، تبرز التناقض الذي تعيشه، فالقوة مقابل القهر الذي تعاني منه.
المحور الثالث من الدراسات متعلق بالجمهور النسائي ودور الإعلام في تشكيله، وتعترف الدكتورة، بناء على واقع الدراسات المنجزة في هذا الشأن، بأن هناك قصورا كميا ونوعيا في دراسات الجمهور، مع أهميتها في تطوير الأداء الصحافي. ومع قلة هذه الدراسات، وندرتها في الصعيد والريف، إلا أنها أكدت على وجود ارتباط إيجابي بين أجندة الموضوعات التي تعرضها وسائل الإعلام، فالدراما عكست إلى حد ما الموضوعات التي تهم المرأة، ومع هذا فقد أسهمت وسائل الإعلام في تغيير نظرة المرأة في قضايا أساسية كالصحة مثلا فتغيرت نظرتها للصحة الإنجابية وتنظيم الأسرة، وبالمثل تأثيرها واضح في المشاركة السياسية، وتوعيتها بقضايا اجتماعية متعلقة بالعنف والاعتداء الجنسي وغيرهما.
الشيء المهم الذي كشفته هذه الدراسات هو أن التلفزيون يمثل، في الحضر والريف، الوسيلة الأكثر استخداما للمرأة، تليه الصحف ثم الإذاعة، وأيضا كشفت الدراسات أن الأمية وانخفاض مستوى المعيشة يمثلان عاملين مهمين لإعراض المرأة عما تثيره وسائل الإعلام من قضايا خاصة بها.
والدراسات الأخيرة هي تلك التي اهتمت بالقائم بالاتصال في إطار الإعلام عن المرأة، بغية التعرف على وعي القائمين بالاتصال، بمفهوم النوع الاجتماعي وعلاقته بتحسين أحوال المرأة، وكشفت الدراسات، القليلة نوعا ما، عن العلاقة الطردية بين وعي القائمين وما ينشرونه أو يبثونه في الإذاعة، لكن الحقيقة المؤلمة أن ثمة قصورا في هؤلاء القائمات بالاتصال، لافتقارهن الوعي الثقافي والمجتمعي، فضلا عن القصور في تأهيلهن فكريا ونفسيا للعمل بالصحافة. كما لوحظ ارتباط الخطاب الصحافي بتوجهات منتجي الخطاب، فهو لا ينفصل عن السياسة التحريرية، إضافة إلى غياب مفهوم النوع (الجندر) عند القائمين بالاتصال في الصحافة المصرية، أما ثالثة الأثافي فعدم امتلاك بعض القيادات الإعلامية تصورا محددا إزاء قضايا المرأة. وكشفت الدراسات عن جملة من المعوقات التي تحول دون تقديم القائمات على الاتصال عملهن برضا، منها التمييز داخل إدارة الصحافية، وضعف المقابل المادي، وغياب الحريات، والأخيرة يعاني منها كل من يتصل بالعمل الصحافي والإعلامي.
المجموعة الصامتة
لا تتوقف الدراسة عند رصد حركة الصحافة النسائية أو الدراسات التي تناولت أبعاد صورة المرأة فقط، بل تتجاوز هذا إلى كل ما يتعلق بالكتابة، فتتوقف عند إشكالية الحرية في كتابة المرأة، وترى أن خيار الصمت الذي فرض على المرأة، على مر التاريخ، وكذلك تم التعتيم على كل ما يتصل بها وبحياتها، وهو ما حدا بالناقد الفرنسي أدوين أردنر أن يطلق عليهن “المجموعة الصامتة في المجتمع” مقابل الرجال/ المجموعة المهيمنة التي تسيطر على اللغة وأساليب التعبير، بل إن المرأة تعبر عن آرائها ومعتقدات باستخدام الأساليب التي فرضها الرجل.
وتقر المؤلفة بأن الكتابة ظلت عبر التاريخ سلطة، وصاحب القلم ليس إلا صاحب سلطة، وبذلك ظلت الكتابة امتيازا للرجال وتجسيدا لسلطتهم، حتى أن العرب أقروا بأن سلطة الكتابة لا يجب أن تورث إلى النساء، وهو ما اقترن بحرمان المرأة من التعليم، ولكن مع حدوث تحولات جذرية في المجتمعات صار من الضروري الإنصات لصوت المرأة، ومعرفة رؤيتها الذاتية لنفسها، وفي ما يحدث حولها، هذه السلطة جعلت المرأة تابعا للرجل، ومن ثم عندما أرادت أن تعبر عن نفسها، اختلقت وسائل جديدة تمرر ما تريد قوله، محاولة تجاوز شرائط مجتمعية وتاريخية غير منصفة، فتسرد عن تجربتها الذاتية في الكتابة، والمعوقات التي واجهتها سواء في عملها الصحافي أو في ما يتعلق بالبحث العلمي والأكاديمي والصعوبات التي واجهتها بهيمنة التيار الإمبريقي على مختلف العلم الاجتماعي، ثم أخيرا كتابتها الذاتية.
الدراسات التي اهتمت بإبراز أبعاد صورة المرأة في وسائل الإعلام، كشفت عن صورة نمطية مازالت مهيمنة على الخطاب الإعلامي
كما تلقي الضوء على ما عاناه الصعيد وتحديدا المرأة الصعيدية (التي كان الظلم مضاعفا حيث تحاصرها الأنساق المنحازة للسلطة الذكورية وتفشي التفاسير الخاطئة للتعاليم الدينية) من التهميش، وترد هذا الأمر إلى الظروف التاريخية والسياسية وكذلك إلى دوائر السلطة وصناع القرار والأوساط العلمية والأكاديمية، وفوق هذا عملت وسائل الإعلام في القاهرة على تهميش الصعيد، وتشويه صورته لدى الرأي العام.
ولا تكتفي بسرد تجربتها الذاتية، وإنما تقدم ملاحظات حول مفهوم السيرة الذاتية، ووضعيتها في السياق العربي، مقارنة بالسياق الغربي، فتقول إن العرب استلهموا السيرة الذاتية الغربية، دون أن يستوردوا العقل الغربي، لأنهم اكتفوا بالشكل السردي فقط. كما تأخذ على السير العربية أنها تركز على الجوانب العامة والسياسية، ولا تملك الجرأة على كشف مكنونات الواقع المجتمعي والحياة الخاصة بتشابكاتها وتعقيداتها وتناقضاتها، التي لا تزال محكومة بقوة السلطة الاجتماعية، التي تحول دون حرية البوح والاعتراف والإفصاح وسائر الصراعات بين الذات والآخر. ومنها تتطرق إلى حدود الخاص والعام، وكيف أن كثيرا من السير تخلو من الإفصاح عن الحياة الخاصة، فكما تقول السيرة الذاتية العربية تواجه محاذير تتعلق بما هو مسموح ولا يتعارض مع الموروث الديني والأنساق الاجتماعية.
وتخلص المؤلفة في النهاية إلى أن المسؤولية الفكرية والأخلاقية لهذا التهميش والصورة الذهنية السلبية تقع على وسائل الإعلام وقنوات الاتصال الجماهيري، ومع الأسف موقف الإعلام لم يتغير بل ظل يمارس التحيز ضد المرأة وخاصة المهمشة في الريف، كما أن الجامعات الإقليمية التي أنشئت بغرض التوعية المجتمعية، وإحلال مفاهيم جديدة كبديل عن تلك التي راجت بفعل الإعلام والدراما والسينما، وغيرها من وسائل كرستْ لهذه الصورة المشوهة، لم تقم بالدور المنوط بها من أجل خدمة واقعها المجتمعي وقضاياه الإشكالية، والعمل على حلها، أو على الأقل أن تكون نقطة ضوء تعمل على إزالة العتمة وتصحح الصورة بإنارة الوعي.