أوّل رواية عربية كتبها شيخ أزهري من أب مسيحي.. حقيقة أم مغالطة؟

بين حين وآخر يظهر كاتب أو باحث باكتشاف مثير للجدل حول الريادة في الرواية العربية، وإن كان الموضوع قد صار نوعا من الدعاية والبلبلة المفرغة والمزايدات، فإنه لا يخلو من أهمية لمتابعة تاريخ الأدب العربي، بينما يسقط كثيرون من خلاله في هوة المغالطة.
نشر الشاعر والصحافي محمود خيرالله مقالة في إحدى الدوريات مؤخرا بعنوان “أول رواية عربية كتبها شيخ أزهري من أب مسيحي أواخر القرن الـ 18″، المقالة تتطرّق من عنوانها إلى مسألة الريادة في الرواية العربية، وهي مسألة شائكة لم يُحسم فيها الأمر (ولن يحسم)، بسبب غياب الكثير من النصوص لأسباب لا مجال لذكرها.
أشار المؤلف إلى أن ما سيقدمه بمثابة الاكتشاف، وإن كان أكّد حسب قوله “طبعا، اكتشاف مثل هذا يستحق منا أن نُقدّم الأدلة على صحته”، وانتظرت إلى نهاية المقالة علّ وعسى أن يقدُّم الدليل، ولكني لم أعثر إلا على إشارة، وهي الإشارة التي اتخذها قرينته كدليل على الريادة، وفي مثل هذه الدراسات يتوجب الوقوف على المصادر الرئيسة وهو ما افتقر إليه المقال، على نحو ما افتقد أصول البحث والاستقصاء.
حكايات أو رواية
العجلة التي اعتمد عليها المؤلف والتي تنتمي إلى ثقافة “انتش واجري” السائدة، مع الأسف انتهت به إلى الاعتراف بأنه لم يعثر على صورة للمؤلف، وسوف أرفق صورة للمؤلف ليس فقط تلك التي نشرتها سهير القلماوي رفقة مقالتها، بل أخرى أيضًا من ملفات مجلة الهلال مكتوب أسفلها “علماء مصر أيام بونابرت، الشيخ محمد المهدي”، وصورة أيضًا لأصل المخطوطة.
كما قادته العجلة (أيضًا) إلى أن يعتمد ترجمة الشيخ عن موقع دار الافتاء، لكن لو استقصى وبحث لوجد ترجمة الدكتورة سهير القلماوي عن محمد المهدي وعلاقته بالحملة الفرنسية وعلمائها، نفس الشيء كان وجده عند محمد زكريا عنان الذي قدم ترجمتين ضافيتين لمارسل والمهدي.
الإشارة التي اعتبرها اكتشافًا أدبيًّا مصدرها ترجمة الراحل سيد إمام لكتاب الباحثيْن أولريشمازروف وريتشارد فان ليفن: “موسوعة ألف ليلة وليلة، أو الليالي العربية” (2018) التي صدرت عن المجلس الأعلى للترجمة بالقاهرة، لكن لو أن المؤلف التزم بمعايير البحث العلمي في التقصي والتحرّي لاكتشف:
– أن هناك إشارات عربيّة أسبق من ترجمة السيد إمام أشارت إلى محمد المهدي وحكاياته؛ الأولى إشارة جورجي زيدان في كتابه “تاريخ آداب اللغة العربية” (1899) الجزء الرابع حيث يقول “… من أن للشيخ محمد المهدي مؤلفًا أدبيًّا يشبه ألف ليلة وليلة سماه ‘تحفة المستيقظ الأنس في نزهة المستقيم الناعس’ ترجم إلى الفرنسية ونشر بها”، وبالمثل الأب لويس شيخو ذكره في كتابه “الآداب العربية في القرن التاسع عشر” 1924، ولم يختلف كثيرًا عما قاله زيدان، ثم تأتي إشارة الدكتورة سهير القلماوي المهمة في مجلة الهلال عام 1968، وهي عبارة عن دراسة حول نسبة المؤلف للشيخ المهدي، ومدى صلته بالعربية، والأهم أنها تطرقت إلى تصنيفه.
يلي ما أسلفنا إشارة الدكتور عبدالمحسن طه بدر في كتابه الرائد “تطوّر الرواية العربيّة الحديثة في مصر” 1963، حيث قال “لا يكاد يسبق محاولة رفاعة في الميدان القصصي إلا مجموعة الحكايات التي يُقال إن الشيخ المهدي – وهو من شيوخ الأزهر الذين اتصلوا بعلماء الحملة الفرنسية – والتي نشر ترجمة فرنسيّة لها المستشرق مارسيل بعنوان: Contes de Cheykh El Mahdy، وهي أقرب إلى حكايات ألف ليلة وليلة، مما يجعلها صورة من صور الأدب الشعبي، ولم تطبع باللغة العربية” (ص 54).
– كما أشار إليها كل من محمد زغلول سلام في كتابه “دراسات في القصة العربية الحديثة” (1973)، ومحمود حامد شوكت في كتابه “مقومات القصة العربية الحديثة في مصر” (1974)، وهناك إشارات عنها في كتاب محمود السعيد الوراقي “اتجاهات القصة القصيرة في الأدب العربي المعاصر”، وكل هذه الإشارات تشير إلى معنى واحد، أنه لا يوجد سبق أو اكتشاف، وإنما فقر في البحث والتقصي.
نأتي للمسألة الأهم ألا وهي مسألة التصنيف أو النوع الأدبي، ومع الأسف قطع المؤلف بشكل حاسم بأنها (أي الحكايات) تنتمي إلى النوع الروائي! (والتعجب من عندي)، فالمسألة أخذت اتجاهات متعدّدة ما بين مقامة وأدب شعبي، وقصص قصيرة، ولم يشر أحد إلى أنها تنتمي إلى جنس الرواية. بل نجد محمود شوكت في كتابه “مقومات القصة العربية الحديثة في مصر” يعقد الصلة بينها وبين دون كيشوت لسرفانتس، على اعتبار أنها مغامرة، دون تلميح صريح للمقامة التي تعتمد على المغامرة والتجوال.
ومن الدراسات التي توقفت عند تصنيف حكايات الشيخ المهدي هناك دراسة قيمة عن تصنيفها نشرها الدكتور محمد زكريا عنان عام 1991 في مجلة فصول المصرية بعنوان “نصوص من النقد العربي الحديث: حكايات الشيخ المهدي هل هي أول مجموعة قصصية في أدبنا الحديث” وأصل الدراسة بحث ألقاه الدكتور عنان في ذكرى طه حسين بكلية الآداب جامعة المنيا عام 1983.
أين الاكتشاف
الإشارة التي اعتمد عليها خيرالله تقول كما ترجمها سيد إمام “نشر مارسيل مجموعة من الحكايات تحاكي ‘الليالي العربية’ بعنوان ‘حكايات الشيخ المهدي’ contesducheykhel_mahdy (1833)، وقد نشرت في جزأين، ظهر الجزء الأول ‘الليالي العشر التعيسة’ عام 1828، وظهر الجزء الثاني في مجلدين، ‘جلسات المورستان، أو من وحي مستشفى الأمراض العقلية بالقاهرة’. والحكايات اعترف مؤلفها الفرنسي ببساطة أنه تَرجمها عن الأصل العربي، بعدما تسلمها مخطوطة من يد صديقه ‘هبة الله’ الذي كان قبطيًّا ثم اعتنق الإسلام، وأصبح سكرتيرًا عامًّا لديوان القاهرة، ومحاضرًا في جامعة الأزهر، وشيخًا للإسلام عام 1812”.
ثم يضيف قائلا “يضيف مؤلفا الموسوعة، أنه على الرغم من أن بعض النقاد و(فهارس المكتبات) لا يزالون يعتبرون الشيخ المهدي هو مؤلف الحكايات التي ترجمها مارسيل للفرنسية، فإن نقادًا آخرين يرون أن مارسيل هو الذي كتب النص بنفسه، على غرار نموذج ‘ألف حماقة وحماقة’، ثم يشيران إلى موضوع الرواية في سطور قليلة: الحكاية الإطار لـ’حكايات الشيخ المهدي’، تدور حول شاب اعتاد تنويم الناس عبر حكي الحكايات، وأُرسِلَ إلى مستشفى الأمراض العقلية بالقاهرة، حيث واصل سرد حكاياته”.
هذا هو الجزء المتعلّق بالاكتشاف، ما عدا ذلك ترجمة للمؤلف من هنا وهناك، اعتمد فيها أساسًا على الموقع الرسمي لدار الافتاء المصرية. الحقيقة أن مسألة الاكتشافات الأدبية والعلمية تتطلب بحثًا واستقصاءً، وهذا غير متحقّق في المقالة، فصاحب المقالة لم يطلع على النص الأصلي، وحسب زكريا عنان “إننا أمام مشكلة معقدة فهناك نص فرنسي في نحو ألف صفحة يؤكد جان جوزيف مارسيل أنه قام بترجمته استنادًا إلى مخطوطة أهداها إليه الشيخ المهدي، ومارسيل يؤكد – دون أن يقدم دليلا قاطعا – أن الشيخ المهدي هو المؤلف وليس مجرد ناسخ الكتابة”.
ومن ثم نتساءل: ما الأدلة التي اعتمد عليها خيرالله في نسب المؤلَّف إلى الشيخ المهدي، خاصة إذا عرفنا حسب قول زكريا عنان “لم نعثر على قائمة بالكتب والمخطوطات والوثائق والرسائل التي كانت تضمها مكتبة مارسيل فلا نجد من بينها الأصل العربي”. ويزيد الطين بلة عنان بقوله “ولا نعثر على أثر في جميع خزائن الكتب المفهرسة في العالم”، وثالثة الأثافي قوله “ونبحث في تاريخ الشيخ المهدي فلا نجد أقل إشارة إلى أن له مجموعة قصصية على غرار ألف ليلة وليلة”، وتزيد سهير القلماوي قائلة إنها لم تعثر للشيخ المهدي على مؤلف خارج الأدب سواء في السياسة أو التاريخ؟ إذن من أين هذا الجزم بنسب الكتاب له، هل الإشارة الواردة في كتاب مترجم تكفي، ثم ما المقاييس التي جعلته يُصنِّف الكتاب إلى نوع الرواية؟
الدكتور عنان يذهب إلى رأي له وجاهته، يقول إن أنطوان جالان مترجم ألف ليلة وليلة، استعان بأحد المثقفين الموارنة – حنا دياب، سبق وأن أشرت إلى دوره في مقالة بعنوان “خزانة شهرزاد”، إلى جانب ما حمل من مخطوطات، لألف ليلة وليلة، فرأي عنان هكذا: “في ظننا أن موقفًا شبيها بهذا قام به الشيخ المهدي ومارسيل”، وبناء على هذا فالشيخ المهدي هو مَن قام بدور حنا دياب، ومارسيل قام بدور أنطوان جالان في تلقي الحكاية. أي كان يستمع إليه ولو رجعنا إلى مقالة الدكتورة سهير القلماوي، تشير إلى أن مارسيل كان يذهب إلى منزل الشيخ المهدي ليستمع إلى حكاياته خلال أمسياتهما المشتركة”.
بعد هذا العرض عن تاريخ الإشارات لنص المهدي، أين الاكتشاف الذي نسبه محمود خيرالله إلى نفسه؟ في ظني أنه يحتاج إلى مراجعة ما كتبه، وأن يلتزم بآليات المنهج العلمي، وأدوات الباحث فيما بعد إن كان يود أن يكون باحثا أدبيّا ومحقّقا ومكتشفا للنصوص الأدبيّة؟