جلال برجس: سؤال الحرية الأصعب في مجتمعاتنا العربية

كاتب أردني يتوكأ على الشعر والرواية ليهشّ بهما على الأحزان.
الخميس 2020/12/31
كاتب يتقصّى واقعه وحاضره العربي

يدخل الكاتب جلال برجس عالم الرواية بسلاحين، أولهما سلاح الهندسة الذي درسه لكنه يستفيد منه في بناء عوالمه القصصية بحبكة متراصّة، وثانيهما سلاح الشعر الذي يعتبره الأقدر على الاستثناء، خاصة في ما يتعلق بالوعي بالهموم المجتمعية المتثاقلة عبر الزمن. فعالم برجس الروائي هو عالم المهمّشين والمنسيين والبسطاء، وهم وحدهم القادرون على ابتكار الألفة والدفء والماء والهواء والشجر والأغنيات.

ينوّع جلال برجس كتاباته بين الشعر، اهتمامه الأول، والقصة والرواية وأدب المكان، وفي سائر أعماله يراهن على إحداث صدمة مباغتة للقارئ، موازنا بين العفوية البريئة، وحسابات الوعي المعقّدة، التي يستمدّها ربما من دراسته هندسة الطيران.

وقد حاورت “العرب” الأديب الأردني حول قضايا الكتابة الشائكة في العالم العربي، وملامح تجربته الحافلة بسلسلة من الإصدارات، أحدثها رواية “دفاتر الورّاق”، التي يقرأ فيها الهموم المجتمعية المتثاقلة عبر الزمن، ويبحث عن حطام الثقافة وبقايا الإنسان.

تتصالح الجغرافيا والتاريخ في إبداعات برجس، فهو ابن واقعه ومجتمعه وحاضره العربي، وابن ذاكرة بعيدة خصبة، يتقصّى عبر أبنيته وشخوصه وأقنعته متحوّلات صادمة، لكنه لا يتخلى عن الأمل، ويظل وسط الخرائب يتطلع بشغف للمستقبل، مواجها طوفان التسليع الجارف، وآليات الرقمنة، وتلاشي القيمة، وانحدار المثل والمعاني والأخلاقيات.

يؤكد برجس في حواره مع “العرب”، أن العالم يهوي نحو التغيرات بسرعة مريعة، أخطر ما فيها التهديد المتوقع للإنسانية. العائلة التي رآها “هيغل” امتدادا للدولة ليست كما كانت، فلم يعد أفرادها يلتفون على سبيل الوجد حول النار ويتحدثون كما وصف “باشلار” في كتابه “النار في التحليل النفسي”، بل يطأطئون رؤوسهم إلى الهواتف النقالة، وصارت علاقة الإنسان بالطبيعة ومخرجاتها هشة على عكس ما دعا إليه “ميرولو بونتي” في فلسفته للعودة إلى الطبيعة.

أعتاب الرقمنة

يخشى الكاتب أن تطغى فوائد الرقمنة على مضارها، لكن لا يعني هذا أن ينحسر الأمل في صيانة الماء في شجرة إنسانيتنا، “إنه الصراع الذي بنيت عليه الحياة، والذي أؤمن بأن الرواية على وجه الخصوص تقوم عليه، لهذا كانت ‘دفاتر الوراق’ على هذا النحو من تعدد الزوايا والأصوات والمستويات اللغوية، لأتمكن من رسم صورة للواقع الأردني، الذي لا يختلف عن الواقع العربي، فنحن قبالة موجة صاخبة من التبدلات”.

يكتب برجس سردياته بروح شاعر تلقائي، وبرمجيات مهندس الطيران، ولا يشعر القارئ بأن القصيدة افتقدته في رواياته المحبوكة، فليست فقط لغتها هي الشاعرية، بل إن لحم الشخوص ينزّ فلسفة وحكمة، كما أن التناقضات والمشاهد الحياتية تقبض على الجوهر الإنساني ببساطة وعمق. هل منبت الفنون واحد؟ وهل التعرية درب الكاتب الدائم لكشف المساحيق وإزالة القشور واقتناص ماهية الحالة، لا مجرد التعبير عنها؟

يتذكر برجس، عضو رابطة الكتاب الأردنيين واتحاد الكتاب العرب وكتّاب الإنترنت وحركة شعراء العالم، أول نص كتبه ورآه قابلا لأن يدفع به إلى القارئ، حيث كان يرافق أخاه في المستشفى لأسبوعين، وفي العنبر نفسه رجل طاعن في السن، في جسده عدة أنابيب وخراطيم طبية مربوطة بأجهزة؛ لا صوت يسود المكان إلا صوتها.

النشر الإلكتروني زاد من أزمة قرصنة الكتب.. ورواية المستقبل تطرح المزيد من الأسئلة حول الإنسان

وأخذ الحزن يتناقص من وجوه الذين كانوا يأتون لزيارته، إلى أن باتوا على نحو اعتقده حينها بلادة، وكان يقف يوميّا إلى النافذة، ينظر إليه، ويبني له سيرة في مخيلته تارة، وتارة أخرى ينظر إلى “مادبا”، البلدة التي صارت مدينة على نحو متسارع، إلى أن وافق أهل ذلك الرجل على سحب تلك الخراطيم، فمات.

ما زال يتذكر ما قاله الطبيب، “ليس هناك من أمل”، ويحكي قائلا “في تلك الليلة، بكيت كثيرا وأنا أنظر إلى المدينة مرة، وأخرى إلى سريره الفارغ، فكتبت قصة كأني أكنس ما علق بي من حزن، وفي الصباح كتبت قصيدة، ومساء وضعت الورقتين على الطاولة أتساءل: ما الفرق بينهما، وما الفرق بين ذلك الرجل وتلك المدينة؟ أسئلة قادتني إلى استعادة أول امرأة عارية رأيتها في الطفولة، وأول لحظة شهدت مراسيم دفن أحدهم، وأول خيبة، وأول حب، حسنا هل أقول إني ابن قرية شهدت فيها عوالم تبعث على الشعر؟ لكني في المقابل شهدت عوالم تبعث على السرد. لهذا بت أرى أن للأشياء منبتا واحدا”.

من القصيدة انطلقت رحلة برجس (50 عاما)، وقدّم عددا من الدواوين، منها “كأي غصن على شجر”، و”قمر بلا منازل”، وأمام رغبة جارفة في بلوغ فضاء أرحب، انتقل إلى عوالم السرد، فكانت رواياته “مقصلة الحالم” و”سيدات الحواس الخمس” و”أفاعي النار” و”دفاتر الوراق” وغيرها، إلى جانب حكاياته المكانية في “رذاذ على زجاج الذاكرة” و”شبابيك تحرس القدس”، حيث تطرّق فيهما إلى فلسفة المكان، بعين تفتش عما وراء الصور الكائنة وخلف الجدران.

يوضح الكاتب الأردني، أن الشعر إطلالة من الذاتي على العام، والرواية إطلالة من العام على الذاتي، كأننا نعيد خلق أنفسنا من زوايا مختلفة، “الأمر يبدو لي مرتبطا بأبعاد الأشياء، لذا أتت روايتي الأولى (مقصلة الحالم) محملة بشعرية رآها البعض زائدة على الحدّ، فكيف لك أن تصنع مشهدا لسجين سياسي سابق عقد صداقة مع ذئب إن لم تكن شاعرا؟ ولهذا أحببت (آرنيستو ساباتو) حينما قال، (ليس هناك من رواية حقيقية إن لم تكن في المحصلة شعرا)، لهذا تبدو التناقضات مصدرا مهمّا لفهم الطريق التي نمضي فيها، إنها ثنائية القشرة واللب”.

محطات العبث

برجس يعتبر الرواية إطلالة من العام على الذاتي فكأننا نعيد خلق أنفسنا من زوايا مختلفة
برجس يعتبر الرواية إطلالة من العام على الذاتي فكأننا نعيد خلق أنفسنا من زوايا مختلفة

أي إنسان قادر على أن يسرد ولو مشافهة حكاية، لكن رهان الكاتب على إحداث الصدمة، التي ترافق إطلاق السؤال، وهذا يعين عليه الشعر والفلسفة على حد سواء.

يقول برجس “لهذا، بت أكتب الرواية بوعي الشعر، لأنه الأقدر على الاستثناء، لكنني لم أستطع أن أتخلى عن وعي الهندسة في بناء الرواية، مع انتباهي إلى عدم الوقوع في حفرة الصنعة. لقد سعيت كثيرا إلى أن تقول الشخصيات ما تريد. حدث لي أن أصبت بما يسمى Writter’s Block أو (قفلة الكاتب)، ولم ينقذني من هذه الحالة سوى الشعر، الذي ما زلت أقرأه وأكتبه، رغم المساحة الأكبر من الكتابة للرواية”.

ينحاز جلال برجس، في قصائده وسردياته إلى الهامشيين والمنسيين والبسطاء، ويتحدث بلسان مثقف متآكل أو شخص عاديّ عابر في طريق. والمدهش أن المرء في هذا الكوخ الفقير المهترئ، بمقدوره أن يبتكر الألفة والدفء والماء والهواء والشجر والأغنيات، وأن يقيم حوارا خاصّا مع محطات العبث واللاجدوى والانتحار البطيء.

يؤكد الكاتب الأردني لـ”العرب”، أن عالم العبث واللاجدوى لم يكن بإمكانه أن يُجذّر نفسه، لولا حتمية الصراع مع العالم الدافئ، رغم أن البرد يحيطه من كل الجهات، “إنه الصراع، لكن هل هو انتصار طرف على طرف؟ لا، فالصراع لا يزال على أشده، لأن من في هذا الكوخ هم الأقدر على النظر إلى الزاوية الحقيقية للإنسان وخلق الدفء. ربما يرى البعض أن هذا المستوى من الأمل هو محض عبث في زمن عبثي، إذن فليكن، نحن في الكتابة والحياة نجابه العبثية القاتلة بعبثية الأمل، لنستمر”.

ويعتقد أن سؤال الحرية هو السؤال الأصعب في الأردن وسائر المجتمعات العربية، ويتصل بقدرة المبدع على التعبير عن المستقل دون ضغوط وقيود، ما يجعله أحيانا قد يلجأ إلى الأقنعة والتاريخ والتورية والتناص مع أبطال الروايات القديمة، “ما دام سؤال الحرية هو الأصعب، فإنه يقف في رأس الصفحة أمام رغبة الكاتب في التعبير الحر. وحينما لا يستطيع فإنه ينزع إلى الابتكار، لكن ليس كل ما يبتكر هو تحايل على مقص الرقيب، بل إن بعضا منه ذهاب إلى فنية السرد، وخروج على السائد السردي، فمن أكثر الأسئلة التي يجب على الكاتب السعي إلى الإجابة عنها: كيفية قول الفكرة، ومدى نجاح تلك الكيفية”.

الكائن العصابي

مشاهد حياتية تقبض على الجوهر الإنساني (لوحة سمعان خوام)
مشاهد حياتية تقبض على الجوهر الإنساني (لوحة سمعان خوام)

تعنُّ على الساحة العربية مشكلات وعوائق شتى تخص الكتابة والنشر، ويرى برجس أن الكاتب العربي في أعين الكثيرين كائن عصابي، وفي عين الناشر مصدر رزق يكفيه نشر كتابه، لا هو الذي حاز على مقروئية ترضيه، ولا هو الذي جنى ما يوازي تعبه ومكابدته في الكتابة.

ولفت إلى أن قانون الملكية الفكرية غير فعّال، “أجد كتبي تباع بنسخ مزورة، وتقرصن بنسخ إلكترونية مجانية في الإنترنت. أمام هذا كله، لا يمكن لحال الكاتب العربي أن يصبح على نحو أفضل، بلا قرار سياسي، يرتقي به وبمهنته”.

وحول النشر الإلكتروني، الذي توقع الكثيرون من القراء والكتاب أن يزدهر في ظل عزلة كورونا، يوضح برجس أنه لم ينجح لأسباب كثيرة، أهمها قرصنة الكتب ونشرها بشكل مجاني على الكثير من المواقع، “بالطبع أنا أتحدث عن الفضاء العربي، لكن إن تأملنا الفضاء الأوروبي مثلا في هذا الشأن، فسنصاب بالحسرة”.

ولعل من آثار كورونا والعزل الصحي بعض الانعكاسات أيضا، على الصعيد الفني المجرد، ويتصور الكاتب الأردني، أن العالم سيخضع لشكلين جديدين من التبدلات إثر هذه الجائحة: التبدلات القسرية، التي تدفع بالعالم اقتصاديا وسياسيا إلى منحى جديد يغاير ما كان عليه، والتبدلات ذات ردة الفعل على ما حدث طوال مدة الحرب، ومجمل التبدلات الثانية اجتماعية وثقافية تشمل رؤية الإنسان عبر استعادته لما حدث، واستشرافه لما سيحدث، مقرونا بمساءلة حول شكل المصير القادم.

والرواية واحدة من العناصر التي سيطولها التغيير كردة فعل على الكارثة، فالذي حدث بمثابة هزة كونية ستفرز على الصعيد الثقافي تجديدات على غرار ما حدث إثر انتهاء الحرب العالمية الثانية، لكن أي تغيير سيطرأ على الرواية؟ لقد شهدنا خلال الأشهر الماضية ولادة نصوص سردية، جزء منها يتأمل بذهول ما يحدث، والجزء الآخر يحاول التوثيق للحظة الحرجة للإنسان، وقد بدا سجينا وحريته مهددة مقابل تراجع مستوى عنصرين مهمّين من عناصر العيش: الغذاء والدواء.

ويشير برجس إلى أن تفشي وباء كورونا، وما تمخض عنه من آثار سلبية على الإنسان بكل هذه الكارثية، لا بد أن يؤدي إلى انزياحات كثيرة، منها انزياحات على صعيد الرواية.

ويقول مختتما حواره مع “العرب”، “ما سيجيء من تبدل سيكون خارجا على السائد، لهذا أزعم أن الراوية في المستقبل القريب ستُبنى على تأمل الإنسان لذاته، وعبر أدوات جديدة، ربما تُبقي على بعض ملامح ما كان منها، إلا أنها ستكون ذات شكل ولغة وأسلوب جديد: رواية تأملية، ستطرح المزيد من الأسئلة حول مصير الإنسان”.

Thumbnail
15