"ثورة تكنولوجية" قادمة في علاج الإيدز

غيّر وباء الإيدز ـ الذي حصد أرواح أكثر من 32 مليون شخص ـ وجه الصحة العامة، وفرض تحديات خطيرة على التنمية والاستقرار السياسي والاقتصادي والثقافي للعديد من البلدان والمجتمعات. لكن بفضل الأبحاث الرائدة والتطوّر التكنولوجي والطبّي أصبح بإمكان الكثير من المرضى الوصول إلى تشخيص فاعل وعلاج ورعاية أفضل. وتحوّل المرض الذي يوصف في الثمانينات من القرن الماضي بأنه عقوبة حتمية بالإعدام إلى مرض مزمن من الممكن السيطرة عليه، ويستطيع معظم الأشخاص المصابين اليوم العيش حياة شبه طبيعية. ولكن هناك آمال أخرى أكبر معلّقة على التطورات التكنولوجية المتسارعة في هذا المجال والتي تبشر بمستقبل خال من فيروس نقص المناعة البشرية.
أكد خبراء أنّ “الثورة القادمة” في علاج فيروس الإيدز قد تشهد طفرة من خلال الاعتماد على الوسائل التكنولوجية والذكاء الاصطناعي بدلا من تناول الأدوية اليومية التقليدية.
ويقول الباحثون إن الاعتماد على بعض الوسائل التكنولوجية الحديثة -وإن كانت في معظمها لا تزال في مراحلها الأولى- قد تسمح للمرضى بالتعامل مع الفيروس بطريقة أكثر فعالية.
وأسفرت العقود الأربعة الماضية للأبحاث في مجال التكنولوجيا الحيوية عن تطوير أدوية مضادّة لفيروس نقص المناعة البشرية المسبّب للإيدز.
وأثبتت الدراسات فعالية وكفاءة تلك العقاقير، لدى الأشخاص المصابين، إذ تمنع الفيروس من إعادة إنتاج نفسه، وتقلّل كميته في جسم المريض إلى مستويات منخفضة للغاية وغير قابلة للكشف، بحيث لا يمكن للمصاب التسبّب في نقل العدوى إلى غيره، ولديه متوسط عمر قريب جدا من الطبيعي.
وحصلت الأغلبية العظمى من النساء الحوامل والمرضعات المتعايشات مع الفيروس على العلاج الذي لا يوفّر الحماية لصحتهن فحسب، بل ويضمن الوقاية من انتقال الفيروس إلى أطفالهنّ حديثي الولادة.
وتمّ كذلك تطوير أدوية للوقاية من الإصابة بالفيروس للأشخاص الأصحاء وهو ما يعرف باسم “الوقاية قبل التعرض” أو “بريب”. وتشير التقديرات إلى أن التناول اليومي لقرص واحد من هذه الأدوية يقلّل من خطر الإصابة بالفيروس بنسبة 95 بالمئة.
إضافة إلى ذلك، هناك لقاحات طور الاختبار وتفاؤل داخل الوسط العلمي بأنها قد تغيّر مسار المعركة ضد فيروس نقص المناعة البشرية إلى الأبد.
كما شكّلت تكنولوجيا الهواتف المحمولة أداة قوية في مكافحة الإيدز. ولعبت دورا مهمّا في الوصول إلى السكان الذين يواجهون عوائق أمام العلاج. وهناك عدد متزايد من مقدّمي الخدمات الصحية، ومُبتكري البرامج الإلكترونية، الذين يركزون على تقديم الخدمة الصحية من خلال الهاتف المحمول أو ما يُعرف باسم “أم ـ هيلث” في هذا المجال.
ومنذ حوالي عقدين، كان متوسط عمر الشخص المصاب بفيروس نقص المناعة البشرية هو 12 عاما. ولم يكن أحد يظن أنه من الممكن تطوير أدوية بمقدورها مساعدة الأشخاص المصابين على عيش حياة طبيعية وصحية. ولكن اليوم من المتوقع، أن يتمتّع المصابون بعمر شبه طبيعي وحياة نشطة وصحية، طالما استمروا في تناول علاجهم بمضادات الفيروسات القهقرية.
ومنذ سنوات، لم يعتقد أحد أنه من الممكن الوصول إلى أهداف برنامج الأمم المتحدة لمكافحة الإيدز والمسمى 90ـ90ـ90 أو “التسعينات الثلاثة”، أي إدراك 90 بالمئة من الأشخاص المصابين لحالتهم في ما يتعلق بالفيروس، ومن بين هؤلاء يجب أن يحصل 90 بالمئة منهم على علاج طويل الأمد بمضادات الفيروسات القهقرية، و90 بالمئة من بين الأشخاص الذين يتلقون العلاج يجب أن يكون لديهم حمولة فيروسية مكبوتة بشكل دائم.
ولكن بعد بضع سنوات من التقدّم الطبي والتكنولوجي آتت المعالجة ضد الفيروس ثمارها. ووفق منظمة الصحة العالمية، تم إحراز تقدّم في مكافحة هذا الوباء. وفي نهاية عام 2018 كان 79 بالمئة من الأشخاص المتعايشين مع الفيروس على علم بحالتهم. وكان ما يقدّر بنحو 23.3 مليون أي نسبة 62 بالمئة من جميع هؤلاء الأشخاص يتلقون العلاج المضاد للفيروسات القهقرية. وقد حقق 53 بالمئة منهم من خلال العلاج المستمر الكبت الفيروسي إلى النقطة التي قللت بشكل كبير من خطر نقلهم لفيروس الإيدز.
وتقترب بوتسوانا بشكل كبير من بلوغ أهداف 90ـ90ـ90 للاختبار والعلاج والقمع الفيروسي. وهي مثال رائد لما يمكن أن يحدث حتى في البلدان الأكثر فقرا أو غير المتقدمة عندما يتم إعطاء الأدوية المضادة للفيروسات القهقرية المجانية للناس.
وتتعدّد الوسائل الفعّالة للوقاية والتشخيص والعلاج ورعاية المصابين، والتي تعد بمستقبل خال من فيروس نقص المناعة البشرية.
معلومات في متناول اليد
كان التواصل أكبر عقبة أمام منظمات الصحة العامة العاملة في البلدان النامية، وحتى جهود التوعية التي استخدمت وسائل متعددة مثل الإذاعة والتلفزيون والمطبوعات كانت في الأساس حوارا أحادي الاتجاه يصل إلى جمهور ضيّق. لكن زيادة الوصول إلى الإنترنت في جميع أنحاء العالم وتوسيع استخدام الهواتف المحمولة أتاحا لمسؤولي الصحة العامة فرصة حقيقية للتواصل لاسيما للشباب.
وفي معظم البلدان الأفريقية حيث خدمات الإنترنت غير ميسورة التكلفة، وطرق الاتصال القائمة على الإنترنت ليست دائما خيارا قابلا للتطبيق. فإن استخدام الرسائل القصيرة غالبا ما كان وسيلة فعّالة لتوفير الخدمات للأشخاص في المناطق الريفية الأكثر فقرا.
وتشير التقديرات إلى أن اتصالات الرسائل النصية القصيرة “ويلتيل” في كينيا أدّت إلى زيادة التزام المرضى بنظم العلاج الخاصة بهم، مما أدّى إلى انخفاض إجمالي في تكاليف النظام الصحي.
ولا شك أن تكنولوجيا الهواتف الذكية شكّلت أحد المعالم في طريق مكافحة الإيدز، حيث لعبت التطبيقات مثل “واتسآب” دورا مهما في توفير المعلومات والتواصل في الوقت الفعلي مع مقدّمي الرعاية الصحية، وتشجيع الناس على إجراء الاختبارات والحصول على العلاج. فهي تتيح خدمات الرعاية الصحية عن بعد للأشخاص والوصول إلى المعلومات والمشورة.
ومع تزايد اعتماد الناس في جميع أرجاء العالم على شبكة الإنترنت، حيث أظهرت الأرقام العالمية التي نشرها مؤخرا موقع “إنترنت وورلد ستاتيس” المتابع لتطورات مؤشرات الإنترنت حول العالم أنه تم تسجيل، مع نهاية النصف الأول من 2019، حوالي 4.54 مليار مستخدم للشبكة العنكبوتية، والتي تقدّر بنسبة 58.8 بالمئة من عدد سكان العالم.
يمكن للتطبيقات مساعدة الأشخاص الذين يتناولون العلاج الوقائي قبل أو بعد الإصابة على إدارة خطط علاجهم بشكل أفضل وتمكينهم من معلومات مهمّة عن التطوّرات والأبحاث. ويمكن ربطهم بعمّال الرعاية الصحية، خاصة عندما تكون زيارات العاملين الصحيين مُكلفة أو غير متوفرة أو يصعب الحصول عليها بانتظام.
الاختبار الذاتي متوفر
الخطوة الأولى نحو تأسيس مستقبل خال من وباء الإيدز هي الحصول على اختبار، وليس هناك حاجة للخوف من التشخيص الإيجابي، ففيروس نقص المناعة البشرية هو الآن حالة مزمنة وليس عقوبة بالإعدام كما في الماضي، ويمكن إدارته بشكل جيد مع الالتزام بالعلاج. ولكن التشخيص المتأخر يمكن أن يكون له تأثير مدمّر على الصحة والعمر المتوقع.
وبفضل التقدّم العلمي، أصبح الفحص اليوم أكثر بساطة حيث يوجد العديد من الوسائل للتحقق من حالة الإصابة. ويمكن شراء اختبار ذاتي من الصيدليات ودون وصفة طبية.
وتستخدم طواقم الاختبارات الذاتية كمية صغيرة من الدم عن طريق وخز الإصبع أو عيّنة من اللّعاب للكشف عن وجود الأجسام المضادّة لفيروس نقص المناعة البشرية التي يبدأ في صناعتها الجهاز المناعي بداية من فترة تتراوح بين أسبوعين إلى ثمانية أسابيع من الإصابة.
ويلجأ العديد من الأشخاص إلى هذا النوع من الاختبارات بسبب الخجل والحرص على المزيد من الخصوصية. ومع العمل بتقنية الاختبار الذاتي يمكن للكثيرين فحص أنفسهم بأنفسهم دون الشعور بالإحراج.
وتُوصي منظمة الصحة العالمية الدول باستخدام الاختبار الذاتي لفيروس العوز المناعي البشري، في محاولة لرصد وكشف الفيروس لدى أكبر عدد ممكن من الناس، وتوسيع نطاق التغطية الكشفية ضمن السكان الذين يصعب عليهم الوصول إلى مراكز الاختبار.
ويعدّ توفير خيار الاختبار الذاتي ذا أهمية كبرى للمساعدة في تحقيق الاختبار السهل والمتكرر وخاصة بالنسبة إلى أولئك المعرّضين لخطر مستمر والذين يحتاجون لاختبارات متكررة. وقد يُسهم في تحقيق الهدف العالمي الطموح المتمثّل في القضاء الفعلي على انتقال فيروس نقص المناعة البشرية.
وهناك طريقتان يمكن من خلالهما استخدام مضادات الفيروسات القهقرية لمنع انتقال فيروس نقص المناعة البشرية.
غالبية الحوامل والمرضعات المتعايشات مع الفيروس يحصلن على العلاج الذي يوفر الحماية لصحتهن ويضمن عدم انتقاله إلى أطفالهن
يتناول الشخص المصاب بالفيروس علاج مضادات الفيروسات القهقرية (آي.آر.تي) والتي تقلّل من نسبة الفيروس إلى مستويات منخفضة للغاية في جسم المرضى بحيث لا يمكنهم التسبّب في العدوى. ويقول الخبراء “إن ما لا يمكن رصده في الدم لا يمكن انتقاله من شخص لآخر”.
والوقاية السابقة للتعرّض “بريب” وتتمثّل في استخدام دواء مضاد للفيروسات مثل “تروفادا” لحماية شخص سليم من الإصابة بعدوى فيروس نقص المناعة البشرية (أتش.إي.في)، وتعمل هذه الأدوية بنفس الطريقة التي تعمل بها حبوب منع الحمل بتناولها يوميا.
ويؤخذ دواء “تروفادا” حبة واحدة عن طريق الفم، وتشير الأبحاث إلى أن هذه الحبة فعّالة ما بين 90 إلى 99 بالمئة في منع انتقال العدوى عن طريق النشاط الجنسي إذا تم تناولها بانتظام كما هو موصوف.
وفي هذا الشأن يقول أنتوني فوشي الذي يرأس المعهد الوطني للحساسية والأمراض المُعدية في بيثيسدا، ماريلاند ” لدينا أداتان رئيسيتان، وإذا استخدمناهما بشكل صحيح، فقد يكون لنا تأثير كبير على الوباء في جميع أنحاء العالم، وليس فقط في البلدان المتقدمة”.
ويضيف “من الناحية النظرية إذا استطعنا إعطاء هاتين الأداتين كامل إمكاناتهما، وإذا عالجنا جميع المصابين فيمكننا إنهاء الوباء غدا. لدينا الأدوات اللازمة للقيام بذلك”. لكن الكثيرين لا يلتزمون بالأدوية أو يأخذونها بشكل متقطع ما يقوض فعاليتها. وعلى سبيل المثال تمّ إجراء دراسة مع فتيات في جنوب أفريقيا، حيث 85 بالمئة منهن كنّ يتناولن حبوب الوقاية “بريب” في الأشهر القليلة الأولى. ولكن بعد عام استمرت 9 بالمئة فقط منهنّ في تناول الحبوب كل يوم.
وفي ضوء عدم التزام الناس بالأدوية، تسعى شركة الأدوية “ميرك” إلى تطوير غرس تحت الجلد طويل الأمد ينقل ببطء العلاج المضاد للفيروسات القهقرية، ما يعد بتوفير درع فعّال لمكافحة فيروس نقص المناعة البشرية لمدة عام أو أكثر، أطول بكثير من أي عقار مضاد للفيروسات القهقرية في السوق حتى الآن. وهو ما قد يُتيح خيارا للتحايل على عبء تناول الجرعات اليومية للمريض.
ويقول فوشي “إن عملية الزرع لمدة عام واحد تنطوي على إمكانات هائلة، وإذا أثبتت أنها آمنة وفعّالة في الدراسات واسعة النطاق، فقد يكون هذا تقدّما في تغيير اللعبة”.
لقاحات قيد الاختبار
على الرغم من التقدّم الكبير الذي تمّ إحرازه في علاج فيروس نقص المناعة البشرية والوقاية منه في العقود الأخيرة لا يزال يتعذّر الوصول إلى لقاح فعّال، ولكن العديد من المشاريع البحثية التي تدير التجارب السريرية تسعى لخلق واحد.
ويقول العلماء إن الثورة القادمة في علاج الإيدز قد تشهد طفرة من خلال حقن المريض بدلا من تناوله الأدوية اليومية التقليدية والتي قد تمثّل عبئا عليه.
ويشكّل التنوع الجيني لهذا الفيروس أحد العقبات في طريق تطوير لقاح فعّال، فهو يغيّر بنيته الخارجية بسرعة ويقوم بإنتاج سلالات وبدائل جديدة بشكل مستمر. ويمكنه الاختباء في الخلايا والهروب من الجهاز المناعي. وعندما يتوقف المريض عن العلاج يستعيد الفيروس نشاطه مما يؤدي إلى إعادة ظهور الأعراض المرضية لدى المرضى.
وأظهر لقاح واحد فقط أطلق عليه “آر.في 144” بعض أشكال الوقاية من المرض، وأعلن عنه في عام 2009 للحدّ من مخاطر عدوى نقص المناعة المكتسبة بين 16 ألف متطوع تايلاندي بنسبة 31.2 في المئة لكنه عد غير كاف لتصنيفه كعقار مضاد للمرض. وهناك نسخة معدلة من هذا اللقاح “أتش.في.تي.إن 702” ويجري اختبارها في دراسة المرحلة 3 على نطاق واسع في جنوب أفريقيا، ومن المأمول أن تقلّل من خطر الإصابة بنسبة 50 بالمئة على الأقل. وسيتم الإعلان عن النتائج في العام المقبل. وتمّ الإعلان كذلك عن تطوّر واعد آخر في يوليو 2019 في المؤتمر الدولي العاشر لمكافحة الإيدز في مكسيكو سيتي، يطلق عليه “موزاييكو” ويتكوّن من سلالات مختلفة من الفيروس.
وثبت أنّ هذا اللقاح فعّال في الاختبارات التي تشمل النساء الأفريقيات، وسيتم تقييمه بشكل أكبر في الولايات المتحدة والأرجنتين والبرازيل وإيطاليا والمكسيك والبيرو وبولندا وإسبانيا.
ويشعر باحثو “موزاييكو” بالتفاؤل الحذر بشأن هذا اللقاح العالمي الجديد، لأن الفيروس أثبت أنه ديناميكي للغاية، وقادر على التغيير بسرعة وتجنّب جميع الاستجابات المناعية.
في الوقت الحالي، تكمُن الترسانة العلاجية ضد فيروس الإيدز في مضادات الفيروسات القهقرية وهي عقاقير تمنعه من التكاثر، ولكنها غير قادرة على استئصاله، حيث يختبئ في خلايا الجهاز المناعي وبمجرّد توقّف المريض عن العلاج يستأنف الفيروس عمله.