الطباعة الحيوية توفر "قطع غيار" للبشر حسب الطلب

ثورة شاملة تمتد من التصنيع والبناء إلى تخليق الأنسجة والقلوب في أحد أكبر الانقلابات في دورة حياة البشر والنشاطات الاقتصادية.
الأحد 2020/04/12
قريبا ستتوفر القلوب بجميع الأحجام

لم تعد انقلابات ثورة الطباعة ثلاثية الأبعاد تقتصر على طباعة المباني والمعدات وقطع الغيار والتجهيزات الطبية مثلما يحدث حاليا لمواجهة وباء فايروس كورونا. فالثورة الأكبر تحدث اليوم في الطباعة الحيوية التي تعد بتحولات جذرية في حياة البشر في العقود المقبلة، وهي لا تقف عند طباعة الأطراف الصناعية والعظام، بل تمتد إلى إنتاج الأنسجة والجلد وأعضاء مثل القلب وتصل إلى منح ذوي الإعاقة “حواس بديلة” عن حواسهم المفقودة.

يكاد يكون التطور المذهل الذي حققته الطباعة ثلاثية الأبعاد خلال الأعوام القليلة الماضية، أحد أسرع السباقات التكنولوجية، وهو يعد بإحداث أكبر الانقلابات في دورة حياة البشر والنشاطات الاقتصادية.

وتنشغل توقعات الخبراء وتكهنات المراقبين بمطاردة الآفاق الواسعة التي تعد بها، والتي لن تقف في المستقبل القريب عند إنتاج قطع غيار السيارات والطائرات وطباعة المباني والمعدات والتجهيزات الطبية مثلما يحدث حاليا لمواجهة وباء فايروس كورونا.

ويشير بعض الخبراء إلى أن أحد أكبر الطموحات الخارقة التي تعد تقنيات الطباعة المجسمة حاليا هو توسيع طباعة أعضاء بشرية حسب الطلب لتصل إلى آفاق لم تكن تراود حتى الخيال العلمي.

وهناك اليوم باحثون ومبتكرون يعكفون على تطوير المواد الأولية المستخدمة في الطباعة ثلاثية الأبعاد لفتح احتمالات لا نهاية لها في مجال الطب البشري.

وتعمل الطابعات ثلاثية الأبعاد العادية على إنتاج مواد صلبة عن طريق بناء طبقة فوق أخرى من مواد مثل البلاستيك أو المعادن. أما الطباعة الحيوية للأنسجة والأعضاء البشرية فهي أكثر صعوبة، بسبب التعقيدات في الأنسجة وعملية نضوجها، وعدم وجود بيئة مناسبة لإنتاج أنواع متعددة من الخلايا، إضافة إلى الحاجة إلى المزيد من تكييف الأنسجة قبل الزرع.

تكنولوجيا حيوية

وتتكامل جهود تطوير الطباعة الحيوية مع التطور السريع في ابتكارات الأعضاء الاصطناعية الذكية التي يتسع نطاق استخدامها كبديل للأعضاء المبتورة أو المفقودة.

بانكاج كاراند: لقد فوجئنا برد فعل الأنسجة المطبوعة عندما أضفنا إليها الخلايا المتخصصة في بناء الأوعية الدموية
بانكاج كاراند: لقد فوجئنا برد فعل الأنسجة المطبوعة عندما أضفنا إليها الخلايا المتخصصة في بناء الأوعية الدموية

وتمتد تلك الأعضاء الذكية من الأيدي التي تمكّن من الشعور بملمس الأشياء، مرورا بالقفازات الناطقة والأذرع التي تقرأ الأفكار، وانتهاء بمنظومة عصبية صناعية يمكنها استشعار المؤثرات الخارجية والتعرف على الحروف عن طريق نظام بريل للقراءة الخاص بالمكفوفين.

ويركز الخبراء والشركات الناشئة في مجال الهندسة الحيوية على الآفاق الواسعة التي يتيحها استخدام الطباعة ثلاثية الأبعاد في مجال إنتاج العظام والأنسجة المزروعة والأعضاء وحتى القلب. وتؤكد الأبحاث أن استبدال الجلد والكبد سيصبح حقيقة إكلينيكية خلال عقدين من الزمن.

وقد توصل باحثون من معهد رينسيلير بوليتكنيك في الولايات المتحدة مؤخرا إلى طريقة ثورية لطباعة الجلد الحي مع شرايين الدم، وقد تساهم هذه التقنية الجديدة في تسريع عملية شفاء المرضى ممن يحتاجون إلى عمليات زراعة للجلد مثل ضحايا الحرائق والحوادث.

ونشرت خلاصة هذه التجربة الرائدة في مجلة “تيشو إنجنيرنغ”، وقد قام الباحثون بإضافة خلايا متخصصة في بناء الأوعية الدموية إلى الكولاجين الحيواني داخل شبكة معقدة من الأنسجة المطبوعة بشكل ثلاثي الأبعاد، ما ساعد الخلايا على تكوين بنية وعائية خلال أسبوع

واحد. وقال بانكاج كاراند قائد فريق البحث وأستاذ الهندسة الكيميائية في مركز التقنيات الحيوية والدراسات متعددة الاختصاصات “لقد فوجئنا برد فعل الأنسجة المطبوعة عندما أضفنا إليها الخلايا المتخصصة في بناء الأوعية الدموية، إذ تشكلت أوعية دموية بسرعة لتصبح مشابهة للأنسجة الحية”.

ولا تزال هناك عقبات كبيرة ينبغي التغلب عليها، فهذه التقنية لم تستخدم حتى الآن سوى على الفئران، وهناك حاجة تقتضي التأكد من عدم رفض الترقيعات المأخوذة من أجسام حية.

لكن كاراند، يرى أنه إذا تم زرع ترقيعات عند نوع خاص من الفئران، من غير المستبعد أن تصبح الشرايين المتأتية من الجلد المطبوع قادرة على ربط الاتصال بشرايين الفئران.

وأضاف موضحا “مثل هذا الأمر بالغ الأهمية، لأننا نعرف حاليا أن الدم يتم نقله كما يتم نقل المغذيات إلى الجزء الذي تم ترقيعه مما يبقي الجزء الذي تم ترقيعه على قيد الحياة”.

ورغم أن هذه التكنولوجيا ما زالت في طور التطوير، إلا أن علماء من جامعة تل أبيب أعلنوا أيضا عن إنتاج أول “قلب بشري” في العالم باستخدام تقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد.

قلوب حسب الطلب

يقول فريق العلماء إنهم باستخدام هذه التقنية لم يتمكنوا من تخليق أنسجة القلب فحسب، بل أيضا الأوعية الدموية، ووصفوا نتائج اختباراتهم بأنها “إنجاز طبي كبير” لما يعطيه ذلك من أمل في مجال زراعة القلب.

ويأمل العلماء أن تفتح هذه الخطوة المجال أمام تخليق قلوب مناسبة للزراعة في أجسام البشر، إضافة إلى تخليق أنسجة لاستخدامها في تجديد الأجزاء التالفة من القلوب المصابة.

والقلوب التي تمكّن فريق البحث من تخليقها صغيرة الحجم، إذ أنها بحجم قلوب الأرانب.

أول مبنى مطبوع بالكامل في دبي العام الماضي يوفر التكاليف والوقت والموارد والبصمة البيئية بنسبة تزيد على 60 في المئة
أول مبنى مطبوع بالكامل في دبي العام الماضي يوفر التكاليف والوقت والموارد والبصمة البيئية بنسبة تزيد على 60 في المئة

وقال تال دفير، العالم الذي أشرف على البحث وقاد الفريق الطبي، إنها “المرة الأولى التي ينجح فيها أي شخص في أي مكان بتصميم وطباعة قلب كامل مليء بالخلايا والأوعية الدموية والبطينين والغرف القلبية”.

وأضاف أن “العلماء تمكنوا في السابق من استخدام هذه التقنية لتخليق هيكل القلب الخارجي فقط، دون الخلايا أو الأوعية الدموية”. لكن الفريق الطبي أقر بأنه لا يزال أمامهم العديد من التحديات التي ينبغي عليهم مواجهتها قبل أن تصبح القلوب المخلقة بهذه التقنية، والتي تعمل بشكل كامل، متاحة للزراعة داخل أجساد المرضى.

ويبقى أمام الباحثين الآن أن يجعلوا “القلوب المخلقة” تحاكي عمل قلوب البشر بشكل كامل، إذ أن الخلايا الآن قادرة على الانقباض لكن ليست لديها القدرة على ضخ الدم بعد.

وستكون الخطوة اللاحقة تجربة زراعة هذه القلوب في نماذج من الحيوانات، ويأمل قائد فريق البحث الطبي إنجاز ذلك خلال العام الحالي.

وقال دفير “ربما، خلال 10 سنوات، ستتوفر طابعات للأعضاء البشرية في أفضل المستشفيات حول العالم، وتصبح مثل هذه العمليات روتينية”. لكنه يرى أن المستشفيات سوف تبدأ على الأرجح بأعضاء أكثر بساطة من القلوب.

وتعد أمراض القلب والأوعية الدموية المسبب الرئيسي للوفاة في العالم، وفقا لمنظمة الصحة العالمية، كما تعد عمليات الزرع الخيار الوحيد المتاح أمام المرضى من ذوي الحالات المتقدمة في المرض.

لكن المشكلة الأساسية هي أن عدد المتبرعين محدود ويموت الكثير من المرضى أثناء الانتظار للحصول على قلوب لزراعتها بدلا من قلوبهم المريضة.

كما أن المرضى يواجهون في حال حصولهم على قلب، احتمالات أن ترفضه أجسامهم، وهي مشكلة يسعى الباحثون للتغلب عليها.

ثورة صناعية

تال دفير: نجحنا للمرة الأولى في تصميم وطباعة قلب كامل مليء بالخلايا والأوعية الدموية والبطينين والغرف القلبية
تال دفير: نجحنا للمرة الأولى في تصميم وطباعة قلب كامل مليء بالخلايا والأوعية الدموية والبطينين والغرف القلبية

وتستخدم تقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد على نطاق واسع في معظم النشاطات الصناعية حاليا، ويمثل مجال صناعة الفضاء أحد أكبر مستخدميها حتى وقتنا الحالي.

فقد صنعت شركة جنرال إلكتريك، على سبيل المثال، أجزاء محرك نفاث، مثل منافث الوقود وأنظمة التوربينات، من مكونات مطبوعة عن طريق الطابعات ثلاثية الأبعاد. كما تمكنت وكالة ناسا من تصنيع غرفة احتراق لصواريخها مصنوعة من مواد أنتجت من خلال عملية التصنيع التجميعي.

وعلى الرغم من أن الطباعة ثلاثية الأبعاد شهدت أكبر قفزاتها التكنولوجية في أوروبا وأميركا الشمالية، إلا أن الصين تتصدر هذا السوق كلاعب رئيسي.

كما تعد تقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد بآفاق واسعة في قطاع البناء والتشييد لتحريره من الوتيرة البطيئة للوسائل التقليدية، إضافة إلى تخفيض البصمة الكربونية للقطاع وتخفيض تكاليف الجمع والنقل والبناء.

وتعمل الشركات المختصة في هذا المجال على تطوير عملها حتى يمكن لأي شخص الحصول على منزل صديق للبيئة وبأسعار معقولة وخلال وقت قصير.

مبانٍ صديقة للبيئة

وتمكنت دبي في أكتوبر 2019 من تحقيق سبق عالمي بإنجاز أكبر مبنى مطبوع في العالم بتقنية ثلاثية الأبعاد، وهو مكون من طابقين بارتفاع 9.5 متر وتبلغ مساحته الإجمالية 640 مترا مربعا.

وقالت بلدية دبي إن المبنى، الذي استغرق بناؤه 3 أشهر فقط، جزء من خطة طموحة لتشييد 25 في المئة من المباني في الإمارة بتقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد بحلول عام 2030.

وتم تصميم المبنى بالتعاون مع شركة أبيس كور الأميركية المتخصصة في البناء بطابعة ثلاثية الأبعاد، وبلغت كلفته 218 ألف دولار، وهو ما يقل بنسبة 60 في المئة عن تكلفة بنائه بالطرق التقليدية.

وتم تنفيذ المبنى حسب متطلبات الاستدامة ومعايير المباني الخضراء، حيث يتميز بأنظمة عزل فعالة، من خلال طباعته بشكل هندسي مبتكر، يزيد من إمكانية الاستفادة من الفراغات داخل الجدران، ما يساعد على عزل المبنى حراريا وتقليل استهلاك الطاقة.

كما تضمن حلولا متكاملة لوضع جميع الأسلاك والأنابيب والخدمات داخل الجدران المطبوعة، وبضمنها الكهرباء والمياه والمجاري وتكييف الهواء وتقنيات نظم المعلومات. وتؤكد تقارير دولية أهمية استخدام تقنيات الطباعة ثلاثية الأبعاد في خفض تكلفة البناء بنسبة تتراوح بين 50 إلى 70 في المئة، وتكلفة العمالة بنسبة تتراوح بين 50 إلى 80 في المئة.

كما أن هذه التقنيات تقلل نسبة النفايات الناجمة عن عمليات الإنشاء بنسبة تصل إلى نحو 60 في المئة، ما ينعكس بشكل إيجابي على المردود الاقتصادي ويسهم في تحقيق استدامة البيئة والموارد.

17