أدمغة مخبرية تكشف علاقة بين مضادات الاكتئاب والتوحد

لا يزال تأثير العقاقير المضادة للاكتئاب على خلايا أدمغة الأجنة من الأمور المجهولة إلى حد كبير حتى الآن، إلا أن باحثين من كلية جونز هوبكنز بلومبرغ قطعوا شوطا طبيا في طريق حل هذه المعضلة. إذ تمكنوا من اكتشاف أن أكثر مضادات الاكتئاب شيوعا الباروكستين يمكن أن يحفّز تشوهات خلايا الدماغ النامية والتي قد تكون ذات صلة بمرض التوحد.
لا يدرك معظم المرضى الآثار الجانبية التي تسبّبها العقاقير التي يتناولونها يوميا على صحتهم البدنية والعقلية، وحتى لو أدركوها نادرا ما يربطونها بالعقاقير، وخصوصا مضادات الاكتئاب، لكن هناك أدلة جديدة أثبتت أن لهذه العقاقير تأثيرات خطيرة على صحة الأجنة، لكنها لم تكن تحظى بالاهتمام الكافي من قبل الخبراء.
وأعلن باحثون من كلية جونز هوبكنز بلومبرغ للصحة العامة أنهم نجحوا في زراعة “أدمغة مصغرة” في المختبر شبيهة بأدمغة الأجنة، ومشتقة من خلايا جذعية بشرية، ثم استخدموها لكشف النقاب عن الآثار الجانبية المحتملة لعقار الباروكستين الذي يشيع استخدامه كعلاج مضاد للاكتئاب، على أدمغة أطفال الأمهات الحوامل.
واستنتج الباحثون أن الباروكستين يتداخل مع التكوين الطبيعي للترابط بين الخلايا العصبية النامية، ويكبح نمو المشابك العصبية أو نقاط الاتصال بين الخلايا العصبية. وقد يزيد ذلك من مخاطر ولادة أطفال مصابين بمرض التوحد أو الاضطرابات العصبية.
ويقول مؤلفو الدراسة إن النتائج تشير إلى أن هذه الأدمغة المزروعة في المختبر والتي يطلقون عليها اسم “براين سفارس” يمكن أن تجعل من الأسهل والأكثر دقة اختبار تأثيرات الأدوية والمواد الكيميائية على الدماغ البشري.
ويرجح الباحثون أنها تساعدهم على دراسة مجموعة واسعة من الحالات، بما في ذلك مرض الزهايمر ومرض الباركنسون (الشلل الرعاش) والتصلب المتعدد ومرض التوحد والالتهابات الفايروسية والصدمات النفسية والسكتات الدماغية.
ومن شأن هذه الأدمغة أيضا أن تشكل بديلا جيدا للتجارب التقليدية على الحيوانات والتي تكون عادة مكلفة وتستغرق وقتا طويلا. ولا تتكيف بالضرورة مع الفسيولوجيا المرضية البشرية.
ولاحظ الباحثون أن مجموعة من اختبارات سمية الأدوية على الحيوانات تكلف نحو 1.4 مليون دولار في المتوسط وهذا ما يفسر عدم اختبار سمية الغالبية العظمى من المواد الكيميائية المستخدمة في الأدوية وغيرها من المنتجات الاستهلاكية. وفي المقابل فإن استخدام الأدمغة المصغرة لا يكلف سوى بضعة آلاف من الدولارات.
العقاقير التي يشيع استخدامها كعلاج مضاد للاكتئاب، قد تزيد احتمالات ولادة أطفال مصابين بمرض التوحد أو الاضطرابات العصبية
وقال توماس هارتونغ، أحد كبار الباحثين المشاركين في الدراسة والأستاذ في قسم الصحة والهندسة البيئية بكلية جونز هوبكنز ومدير مركز بدائل اختبار الحيوان، إن هناك قلقا متزايدا من أن لدينا وباء من الاضطرابات العصبية بما في ذلك مرض التوحد، وواحدة من الفرضيات هي أن هذا الوباء قد يكون ناجما عن التعرض للعقاقير الشائعة أو غيرها من المواد الكيميائية. ومع ذلك، نظرا لأن الاختبارات التقليدية للحيوانات باهظة التكلفة لم نتمكن حتى الآن من دراسة ذلك بالشكل الصحيح.
وطور هارتونغ وزملاؤه هذه الأدمغة لنمذجة نمو الدماغ المبكر، وذلك عن طريق أخذ خلايا من البشر البالغين، غالبا ما تكون من بشرتهم، وتحويلها إلى خلايا جذعية، ثم دفع الخلايا الجذعية كيميائيا لتتطور إلى خلايا دماغية صغيرة، بالكاد تكون مرئية بالعين المجردة، لتشكل لبضعة أشهر بنية بدائية تحاكي تطور الدماغ البشري النامي، وبمعنى آخر آلياتها الخلوية قريبة من آليات أدمغة الأجنة في رحم أمهاتهم.
ونظرا لكونها مصنوعة من خلايا بشرية فقد تكون أكثر كفاءة للتنبؤ بالآثار الجانبية للعقاقير على دماغ الإنسان. ولأنه يمكن إنتاجها بكميات كبيرة في المختبر فالتكلفة ستنخفض كثيرا مقارنة بالتجارب الحيوانية.
واستخدم هارتونغ وزملاؤه هذه الأدمغة لاختبار الآثار العصبية للباروكستين الذي يتم تسويقه تحت الاسمين التجاريين باكسيل وسيروكسات. وهو أحد مضادات الاكتئاب وقد تم طرحه لأول مرة في عام 1992 عن طريق شركة الأدوية غلاسكو سميث كلاين. وينتمي إلى فئة مثبطات امتصاص السيروتونين الانتقائية “إس.إس.أر.أي”.
والسيروتونين هو موصل كيميائي يفرز في الدماغ بواسطة المستقبلات العصبية ويعتقد أنه هو العامل الرئيسي الذي يؤدي اضطراب إفرازه إلى الإصابة بالاكتئاب. وتعد مضادات الاكتئاب “إس.إس.أر.أي” من بين الأدوية الأكثر شيوعا في العالم، حيث تمثل وفقا لمؤلفي الدراسة ما لا يقل عن مئات الملايين من الوصفات الطبية سنويا.
وأشارت دراسات سابقة إلى أن جزء الباروكستين الذي يمكنه عبور المشيمة عند النساء الحوامل بإمكانه زيادة خطر ولادة أطفال مصابين باعتلالات في القلب والرئة، كما أفادت بعض الدراسات الوبائية أن الباروكستين قد يزيد من خطر الإصابة بالتوحد.
وفي الدراسة الجديدة على الأدمغة المصغرة استخدم الباحثون جرعات مصغرة من الباروكستين لمدة ثمانية أسابيع بتركيزات خفيفة وعالية تقابل المستوى الذي يمكن العثور عليه في دم شخص بالغ يخضع للعلاج.
ووجد العلماء أن الباروكستين بجرعات منخفضة ليس له تأثير مدمر كبير على الخلايا العصبية، إلا أنه في التركيز العالي قلل من مستويات البروتين المسمى سينابتوفيسين وهو مكون رئيسي في المشابك العصبية، بنسبة تصل إلى 80 في المئة.
وتشير هذه الآثار إلى أن الدواء قد يعيق التكوين الطبيعي للترابط بين الخلايا العصبية النامية وهي نتيجة يمكن أن تشكل أساسا التوحد أو غيره من الاضطرابات. وتبين الدراسة أيضا الإمكانات الأوسع للاختبارات القائمة على “أدمغة مصغرة” للكشف عن الآثار الضارة للعقاقير على الدماغ النامي.
ويقول هارتونغ “لقد تمكنا من إظهار أن الاختبار باستخدام أدمغة مصغرة يمكن أن يكشف عن آثار نمو عصبي خفية نسبيا وليس فقط تأثيرات لمادة كيميائية”، ويضيف “ما إذا كان الباروكستين يسبب مرض التوحد كان نقاشا دام عقدا من الزمن والذي لا يمكن تسويته مع الاختبارات مع الحيوانات أو التحليلات الوبائية. وبالتالي فإننا نعتبر أن الأدمغة المخبرية تقنية للتقييم الأوسع لمخاطر الأدوية والمواد الكيميائية الشاسعة، بما في ذلك تلك التي قد تساهم في مرض التوحد”.
وتلقى هارتونغ وزملاؤه مؤخرا منحة من وكالة حماية البيئة الأميركية لتطوير تكنولوجياتهم كبديل للاختبارات على الحيوانات.
وربما في المستقبل القريب تمكن النماذج الأكثر دقة للعقل البشري العلماء من فهم أكثر عمقا للأمراض العصبية والنفسية و”حسم الجدل” بشأن الآثار الجانبية لمختلف العقاقير على الخلايا العصبية، ما قد يساعد في وصف العلاج الأمثل للمرضى.