تونس وعقدة التواصل مع الشعب

ليس من المبالغة توصيف حالة التواصل الحكومي مع الشعب بأنها قديمة إن لم تكن متخلفة والأرقام الجافة التي يسوقها الوزراء تقاعسا أو لسوء التقدير مثال على ترسخ العقلية الجامدة في الإدارة.
السبت 2023/12/02
الخروج من إطار المفهوم القديم للتواصل

القراءات التي قدمتها وزيرة المالية سهام البوغديري لتفصيلات ميزانية تونس 2024 والإنفاق العام أمام البرلمان مؤخرا، تبدو مهمة ومفيدة بلا شك، لكن ما ينقصها هو أن تجد أدوات إعلامية متمكنة تحولها إلى لغة تواصل مع الجمهور، المعني الأول بهذه الأرقام.

هذه مشكلة مزمنة تعاني منها الدولة إلى درجة أنها باتت بما يشبه العقدة، وآن لها أن تجد حلا جذريا لمواكبة التطور من حولنا، فالمواطن العادي لا يستطيع أن يفسر الأرقام ويحتاج إلى من يعيد تقديمها بلغة يومية. وحتى الجهد المبذول من قبل وسائل الإعلام لجعل تلك البيانات مستساغة لا يبدو كافيا. لذا من المهم إدراك تأثير البيانات الاقتصادية في تشكيل المشهد المعيشي العام.

ليس من المبالغة توصيف حالة التواصل الحكومي في تونس مع الشعب بأنها “قديمة”، إن لم تكن “متخلفة”، فالأرقام الجافة، التي يسوقها الوزراء، دون أن يكلفوا أنفسهم عناء تفكيكها بطريقة سلسلة، ربما تقاعسا أو لسوء التقدير أو لضيق الوقت، أحد الأمثلة على ترسخ العقلية الجامدة في الإدارة.

ألا أدلكم على صفقة مربحة.. جهزوا حقائبكم واستعدوا لشد الرحال إلى دبي فإن فيها قمة سنوية للحكومات بعد شهرين من الآن قد تفيدكم في اكتساب خبرات فن التواصل مع الشعب!

لم تكن هذه المرة الأولى التي يقوم فيها وزير يمسك بزمام حقيبة المالية أو الاقتصاد باتباع مثل هذا الأسلوب، وربما وزراء في حقائب أخرى، حيث لن يبذل المتابع البسيط أي جهد لمعرفة أن كل من سبقوهم ساروا في هذا النهج. العملية تبدأ برمي المؤشرات والأرقام هكذا أمام حشد نواب مجلس الشعب لتفتح بعدها نقاشات مملة ثم يغلق الملف وانتهى!

والنتيجة لا نعرف كيف تصرف الأموال بدقة أو كيف يتم تحصيلها؟ والأهم من ذلك ما تأثيراتها على حياة الناس وآثارها على التنمية؟

عندما تفكر أن تصبح وزيرا، فإن أول شيء يجب عليك فعله هو التواصل بلغة مفهومة، دون ترك مجال للغموض من أي نوع، فالاتصال علم صعب وليس علما دقيقا، ولكن يمكن تعلمه وتنميته، كما كان يردد رجل الأعمال الفرنسي الراحل جان لوك لاجاردير. ولذا بدلا من الغرق في معلومات سردية لا طائل منها، ينبغي لوزرائنا أن يتعلموا التواصل قبل القراءة والاستماع.

بالنظر إلى أنه تم الاعتياد على نشر المعلومات والأرقام والبيانات على أساس تنازلي ومن جانب واحد فقط، ونقصد هنا الحكومة، مع التركيز على تعزيز سمعتها أمام الرأي العام، فمن المثير ملاحظة أنه لم يُستفد من كامل إمكانات وظيفة التواصل العام، ومازال يُربط في معظم الأحيان بالعلاقات مع وسائل الإعلام التقليدية.

علاوة على ذلك، غالبا ما يتم التصدي للتركيز على التواصل الاجتماعي سريع الاستجابة، الذي من المفترض أن يدعم مبادئ الحكومة المفتوحة المتمثلة بالشفافية والنزاهة والمساءلة ومشاركة أصحاب المصلحة وأيضا عامة الناس، فاستبدال السياسة بمفهوم الحوكمة والمواطن بمفهوم الشريك أمران متلازمان ومهمان للغاية.

لا نرى الكثير من تبسيط المعلومات والأرقام الاقتصادية في الشبكات الاجتماعية من قبل الدولة أو وزاراتها. ما نراه تقاذف لسيل من البيانات التي يستخدمها الناشطون في التندر والتهكم تارة. وتارة أخرى في بناء جدار من الشائعات!

ولذا، يفرض السياق الحالي على الحكومة التي يرأسها أحمد الحشاني ووزاراتها ضرورة الخروج من إطار المفهوم القديم للتواصل الذي عفا عليه الزمن. ويتطلب ذلك تغيير التواصل في ثقافة كبار الموظفين العامين وصناع السياسات بشكل أساسي.

لا نرى الكثير من تبسيط المعلومات والأرقام الاقتصادية في الشبكات الاجتماعية من قبل الدولة أو وزاراتها. ما نراه تقاذف لسيل من البيانات التي يستخدمها الناشطون في التندر والتهكم تارة. وتارة أخرى في بناء جدار من الشائعات!

غالبا ما تكون جهات التواصل الحكومية على دراية تامة بالفرص المتاحة التي يمكن الاستفادة منها في تثقيف العامة، ولكنها لا تستطيع في الكثير من الأحيان الوصول كما يجب إلى ما يريده صناع القرارات أو الحصول على التفويضات والموارد اللازمة والكافية لتحقيق التواصل المؤثر مع الجمهور.

لعل مهمة الدولة الأبرز اليوم هي إدراك أن التواصل تطوّر بشكل دراماتيكي خلال السنوات القليلة الماضية، وبات جزءا من كفاءتها، وعليها الوعي بحقيقة أنه تحول إلى عملية مدروسة لها إستراتيجياتها بعيدة المدى، وأن ارتداء ثوب التجديد أمر حتمي، وليس أن تكون فرقها الاتصالية مجرد جحافل من موظفين ينتظرون متى يطلون على الشعب لإخبارهم بما يصلهم من دوائر صنع القرار.

قد يشمل التحول توسيع كوادر مكاتب الاتصال الحكومي لتشمل المختصين في أهم منهجيات الاتصال، وبناء شبكة من علاقات فعالة مع الخبراء والجهات ذات العلاقة بالتنمية وعلوم الاجتماع والسلوك وغيرها، حتى تنتقل تلك الفرق من مجرد وسيط ناقل إلى صانع للفكرة والمعلومة وفتح الآفاق حولها وتفكيك دلالاتها وأهدافها.

ربما ينبغي على من هم في السلطة أيضا أن يطوروا دليلا للمعجم الوزاري حتى نتمكن نحن معشر الصحافيين والمواطنين البسطاء من فهم السياقات المالية والاقتصادية العامة وتشعباتها المعقدة، لننتقل بعدها إلى تشريح اتجاهات مؤشرات التضخم والديون والأسعار والدعم والاستثمار وغيرها، حتى نعلم وقعها على جيوبنا.

ألا أدلكم على صفقة مربحة.. جهزوا حقائبكم واستعدوا لشد الرحال إلى دبي فإن فيها قمة سنوية للحكومات بعد شهرين من الآن قد تفيدكم في اكتساب خبرات فن التواصل مع الشعب!

9