تونس والشعب وفيتو صندوق النقد

طريق المفاوضات يحتاج إلى الكثير من الشفافية من قبل الحكومة لكي يمكن للمواطنين أن يدعموا قرار تونس بعدم التجاوب مع شروط الصندوق ومواجهة تبعات أي انعكاسات لذلك على الشأن الاقتصادي.
الاثنين 2024/01/15
التونسيون ينتظرون الخروج من نفق الأزمة

ورقة الفيتو النادرة التي رفعها صندوق النقد الدولي في وجه تونس بإدراجها تحت المراقبة السلبية بذريعة تعثر المفاوضات، تعطي انطباعا متشائما لأولئك الذين ينظرون إلى مستقبل البلد المأزوم اقتصاديا وماليا من شركاء ومانحين ومستثمرين وغيرهم، بأن الجدارة الائتمانية للدولة كارثية حقا. هذا الانطباع يبدو نظريا وعلى الورق فقط.

عمليا، وهو ما يحدث في الواقع، السلطة ترى أن لديها من الأدوات ما يكفي لتخطي كل التحديات مهما كانت، متكئة في مسارها على صبر الشعب وهو في عز محنه، بدليل أنها عبأت ديونا في 2023 لتمويل الميزانية دون الحصول على دولار واحد من الصندوق.

لقد كانت نقطة مهمة في مرمى منتقدي مسار الدولة بعيدا عن فخاخ المؤسسة المانحة، وكانت أيضا رسالة قوية من المسؤولين التونسيين بأن السيادة الوطنية والاعتماد على الذات مهمان بقدر أهمية جمع الديون الملغومة بالإصلاحات، التي قد لا تحقق ما هو مطلوب منها، مثلما حصل في التجارب الأربع الماضية منذ انضمام البلد إلى صندوق النقد كعضو بعد الاستقلال.

ثمة قناعة بأن الإصلاح لا يمر بالضرورة بصندوق النقد، فالسلطة بنظرها تملك الخبرات والقدرات الذاتية لإنجاح المسار الإصلاحي المليء بالمطبات، رغم أن الدولة تحتاج كأي بلد آخر في وضعيتها إلى اللجوء إلى الأسواق المالية العالمية، كون سقف تمويلات الصندوق المرتبط بمقدار مساهمة تونس فيه، وهو 1.9 مليار دولار في إطار المفاوضات المتعثرة، لن يسهم في تجاوز الأزمة الهيكلية التي يمر بها الاقتصاد.

◙ العامل الرئيسي لإنهاء الجدل الدائم حول القرض المنتظر أو أي قروض أخرى لاحقا، هو كيفية استعادة ثقة المانحين والمستثمرين الأجانب في مستقبل البلد.

منذ أكثر من سنة وأسطوانة متى تحصل تونس على قرض صندوق النقد لم تتوقف. هذا الكلام الذي ينبع من جبهة السياسيين المناوئين للسلطة كقيادة، ولا أتحدث هنا عن الدولة بما تتضمنه من مؤسسات قائمة ترفض التفريط في أي مكتسبات مهما كانت قليلة في علاقة البلد بهذه المؤسسة، أغلبه مرتبط بإنقاذ الدولة من الإفلاس، وهو لم ولن يحصل على المدى القريب أو البعيد على الأرجح.

في مقابل هذا التيار تمسك السلطة الحالية منذ صيف 2021 بعصا السلم الاجتماعي بالدرجة الأولى، لأنه بالنسبة لها هو رمانة ميزان الاستقرار في إطاره العام وتفادي تجارب سابقة لم تنجح، حتى مع الظرف الصعب حاليا في ظل تضخم قاس وتشديد نقدي لم تعرفه الدولة على امتداد أكثر من ستة عقود وخمول في الاقتصاد الكلي.

الرئيس قيس سعيد لم يتوان في الكثير من المرات عن انتقاد صندوق النقد، وقد شدد على أن تونس لن تذعن لإملاءاته بشأن خفض الدعم وفاتورة أجور القطاع العام إلى غير ذلك، بهدف معالجة الاختلال في التوازنات المالية، لأن ذلك قد يؤدي إلى تجدد الاضطرابات الاجتماعية، وكان أقوى توصيف له لعلاجات الصندوق قوله إن شروطه “بمثابة عود ثقاب يشتعل إلى جانب مواد شديدة الانفجار”.

لكن بنظرة بسيطة للوضع يمكن أن نستشف أن قيس سعيد لم يرفض التفاوض بالمطلق، بل هو متمسك بإصلاح المؤسسات وضبط وترتيب الأولويات قبل الشروع في إعادة الاقتصاد إلى مساره الصحيح من خلال فرض شروط الدولة، بحيث لا يجوع التونسيون ولا يشتكي المانحون وكل من يراقب حالة تونس، وخاصة المستثمرين الذين يتبعون مؤشرات وكالات التصنيف الائتماني قبل اتخاذ أي قرار، وهنا تكمن المفارقة.

فبينما تنص مشاورات المادة الرابعة منذ تأسيس صندوق النقد على إجراء مناقشات ثنائية مع الدول الأعضاء تتم في العادة بشكل سنوي، إلا أن تونس لم تستجب لذلك بعد الاتفاق الأولي في أكتوبر 2022، وبدلا من ذلك أدت تسويفات الدولة إلى وضعها تحت المراقبة السلبية على معظم المؤشرات الدولية، وعقدت نوعا ما توجهات ترميم الاختلال في التوازنات المالية مع قلة الإيرادات والعمل على سدها بزيادة الديون من السوق المحلية.

◙ السلطة ترى أن لديها من الأدوات ما يكفي لتخطي كل التحديات متكئة في مسارها على صبر الشعب وهو في عز محنه، بدليل أنها عبأت ديونا في 2023 لتمويل الميزانية دون الحصول على دولار واحد من الصندوق

وفقا لإحصائيات عامة لعشرات الحالات لدول مثل حالة تونس، فإن الفارق الزمني لمدة سنة بين الاتفاق الأولي والتوقيع النهائي لنيل القرض يمثل تأخيرا قياسيا بالنسبة لتونس، مقارنة بمتوسط ​​55 يوما الذي تستغرقه البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل بين الخطوتين، ويتجاوز فترات انتظار طويلة لتجارب سابقة مع دول مثل سيرلانكا وزامبيا وتشاد على سبيل المثال.

إن عملية التفاوض فيها الكثير من الجوانب الفنية، التي تتحمل الأخذ والرد بين الحكومة التونسية والصندوق، وبالتالي من الأجدى أن تترك الدولة الباب مواربا من خلال تقديم أوراق دفاعها المقنعة بأن برنامج الإصلاح المقرون بالقرض يجب أن يكون متوازنا، بحيث يتم تفكيك كافة العقبات على مراحل، وعدم إسقاط تجارب دول أخرى مع المؤسسة المانحة على تونس، باعتبار أن لكل بلد ظروفه الخاصة به.

المؤكد أن طريق المفاوضات يحتاج إلى الكثير من الشفافية من قبل الحكومة لكي يمكن للمواطنين أن يدعموا قرار تونس بعدم التجاوب مع شروط الصندوق ومواجهة تبعات أي انعكاسات لذلك على الشأن الاقتصادي، وهو ما تقوم به الدولة ظاهريا أمام الرأي العام، ولكن دون أن يلمس التونسيون تغيرا حقيقيا في أوضاعهم المعيشية الصعبة. وهم في ترقب دائم للخروج من نفق الأزمة.

وسواء اتفقنا مع موقف تونس، الذي يدافع عنه قيس سعيد، تجاه طريقة التعامل مع الصندوق أو لم نتفق، فإن العامل الرئيسي لإنهاء الجدل الدائم حول القرض المنتظر أو أي قروض أخرى لاحقا، هو كيفية استعادة ثقة المانحين والمستثمرين الأجانب في مستقبل البلد.

والأهم من ذلك، هو أن يجد الرئيس التونسي نقطة توازن مقبولة بين الاستقلالية الاقتصادية في ظل تسلحه بمواقفه التي تدعمها شريحة من الشعب، والحاجة إلى المساعدات الدولية اللازمة لمواجهة تحديات التمويل الكبيرة لتغذية الاقتصاد، والتي يبدو أنها لن تهدأ قريبا.

8