تونس.. عقد آخر من الإنفاق بالديون

مرة أخرى تريد تونس بلجوء حكومتها النادر إلى الاقتراض المباشر من البنك المركزي إثبات أن لديها مخزونا من الأدوات الاستثنائية لحل مشكلة عجز الموازنة حتى لو كان ذلك يحمل آثارا سلبية قد تمتد إلى الأجيال القادمة في شكل ضرائب لدفع أصل الدين وفوائد ديون سابقة، بما أن البلد سيكون على أعتاب عقد آخر من الإنفاق والاستهلاك بالديون.
هل يعني ذلك أننا أمام “دولة الزومبي”، التي تقترض من أهم مؤسسة مالية لديها من أجل سداد قروض دون أن يتم ضخ الأموال في الإنفاق الاستثماري؟ وماذا سيكون تأثير ذلك على القطاع المصرفي؟ هل ستطبع الدولة نقودا لتغطية ما أخذته؟ ثم ما هي الضمانات بأن الحكومة ستلتزم بسداد هذا الدين؟
في حين أن الاهتمام بمناقشة إقراض المركزي للحكومة ليس جديدا، فهو قليل أو معدوم، ولقد تم تكريس الاهتمام بهذه القضية بعدما لجأت الحكومة في 2020 إلى البنك المركزي، كما فعل عدد محدود من حكومات الدول النامية، للحصول على المال مع زيادة الالتزامات والضرائب وانخفضت الإيرادات لمعالجة الاختلالات المالية من الداخل والخارج، بينما كانت أسواق رأس المال الدولية باهظة أو غير متوفرة.
◙ الدين العام له أهمية اقتصادية في حد ذاته، منها أنه يوفر شراء الأوراق المالية الحكومية وبيعها للبنك المركزي كوسيلة للتأثير على المعروض النقدي، وهو أمر ضروري لسياسة نقدية فعالة
يشمل الاقتراض الحكومي بالمعنى الدقيق للكلمة الحصول على ديون من القطاع الخاص فقط، أي من الأفراد والشركات والمؤسسات المالية المختلفة، بما في ذلك البنوك. وعندما تحصل على أموالها من المركزي، فإنها في الواقع توفر السيولة النقدية بدلا من اقتراضها، نظرا لأن القوة الشرائية تبنى أساسا من قبل صناع القرار النقدي دون التزامات تجاه المستهلكين.
قد تكون تونس مصيبة في خياراها هذا من خلال ضرب ثلاثة عصافير بحجر واحد، أولا، تأكيد أنها لن ترضخ لشروط صندوق النقد الدولي للحصول على خط ائتمان، وحتى لو عادت المفاوضات مجددا فإنها ستفرض شروطها هي. وهذا احتمال فيه نقاش، لأن المبلغ الذي ستحصل عليه من المركزي وهو 10 مليارات دينار (2.25 مليار دولار) مع فترة سداد تمتد على عشرة سنوات بفائدة صفرية، أكبر من قرض المؤسسة المانحة، والبالغ 1.9 مليار دولار.
وعليه، قد يبدو ذلك كافيا في نظر المسؤولين لإثبات مبدأ تحقيق السيادة، حتى لو كان على حساب المكاسب المنجرة عن خط الائتمان من الصندوق، بما في ذلك الاتفاقيات الثنائية، التي يفترض أنها أحد نتائج الاتفاق المنتظر، وأحد محركات الدفع للخروج من الضائقة المالية والاقتصادية الراهنة.
أما الهدف الثاني، فيتمثل في تقليص الاقتراض من البنوك المحلية بفائدة عالية، وبالتالي تخفيف الضغط عن الموازنة، مع إرجاء أيّ طرح محتمل لسندات الخزانة ريثما يتضح مسار الوضع. وثالثا، رسالة إلى قطاع الأعمال بشركاتها الكبيرة والصغيرة والمتوسطة والتونسيين عموما، بأن عليكم الإنتاج أكثر لتزيدوا التصدير وتقللوا الاستيراد مع توفير فرص العمل، حتى يتم إعادة بناء رصيد العملة الصعبة وينمو الاقتصاد.
طبعا، الرواية المضادة كانت حادة منذ أن تم الكشف بأن الحكومة صادقت على مشروع قانون لتعديل بنود في نشاط البنك المركزي تمنعه من إقراض الدولة، وهو قيد المناقشة في البرلمان، إذ يفترض المنتقدون أن خطوة كهذه تبدو خطرة، وأنها ستنهي استقلالية هذه المؤسسة المنوط بعهدتها ضبط السياسة النقدية وحماية الدينار، وأن الدمار الاقتصادي الشامل قادم لا محالة.
◙ الاقتراض الحكومي يشمل بالمعنى الدقيق للكلمة الحصول على ديون من القطاع الخاص فقط، أي من الأفراد والشركات والمؤسسات المالية المختلفة، بما في ذلك البنوك
ولتأكيد هذا الموقف، هو اتكاؤهم على ما قامت به العديد من الدول خلال العقدين الماضيين، وبمساعدة صندوق النقد بإصلاح تشريعات بنوكها المركزية بهدف التغلب على المشاكل والعثرات أوقات الأزمات. وكان أحد الركائز هو تقييد تمويل البنك المركزي للحكومة، حيث اعتبر ذلك مصدرا مزمنا للتضخم، مثل غانا، التي أمعنت في السحب من بنكها المركزي لتصل ديونها إلى 60 مليار دولار مع تضخم فاق 23 في المئة قبل أن تتوقف عن ذلك بعد فوات الأوان. ولكن في النهاية عادت ولجأت إلى صندوق النقد.
قد تكون البنوك التونسية بفعل القرار المثير للجدل الآن في مرمى تبعات قد لا يمكن تفاديها سريعا، إذ أن الاقتراض المباشر بالدينار من المركزي ستكون له تداعيات سلبية على النظام المالي عموما وأيضا على قطاع الاستثمار المترنح أصلا، وربما يأتي بنتائج عكسية على نمو الناتج المحلي الإجمالي، باعتبار أن أيّ زيادة في المعروض النقدي بالسوق ستترتب عليها آثار مباشرة على ارتفاع التضخم، الذي أنهى 2023 عند نحو 9.3 في المئة، بينما من المتوقع أن يبلغ هذا العام 7.3 في المئة.
مع ذلك، فإن الدين العام له أهمية اقتصادية في حد ذاته، منها أنه يوفر شراء الأوراق المالية الحكومية وبيعها للبنك المركزي كوسيلة للتأثير على المعروض النقدي، وهو أمر ضروري لسياسة نقدية فعالة. كما أن الاقتراض يتجنب التأثيرات السلبية، التي قد تخلفها الضرائب على الحوافز، وخاصة إذا تم رفعها بشكل حاد فوق المستويات التي اعتاد عليها الأفراد والمستثمرون وهو ما حصل في موازنتي 2023 و2024.
وبغض النظر عن طرق التمويل، فإن التكلفة الحقيقية لأيّ نشاط حكومي، يتم تحملها على شكل انخفاض الاستهلاك والاستثمار الخاص خلال فترة السداد. وسيكون العبء المستقبلي الوحيد هو الذي ينشأ عن استنزاف موارد الدولة المتأتية من السياحة والفوسفات والزراعة.. بما يؤثر على الآليات التي يتم بها تقاسم عبء الإنفاق العام بين مختلف فئات المجتمع مستقبلا، ما سيجعل التونسيين يدورون في حلقة مفرغة إلى ما لا نهاية. وهذا هو الخطر الأكبر.