تونس: النهضة وسياسة "الأجنحة المتكسرة"

الحقيقة أن حركة النهضة استفادت من التلون ونجحت في تحويله إلى قاعدة عملية سياسية قد يكون من المجانب للصواب القفز على حقائقها ووقائعها.
الجمعة 2019/10/04
تلوّن وازدواجية في الخطاب

تحمل الخطابات السياسية الأخيرة لرئيس حركة النهضة التونسية راشد الغنوشي، الكثير من الدلالات اللافتة على قدرة الحركة على التلون في الخطاب والسياسات والاستراتيجيات بشكل يحيل لا فقط على الازدواجية، بل إلى الجمع بين كل ما سبق ذكره.

لا يحقّ لأحد على المستوى الأدبي والرمزي أن يُصادر حقّ تغيير الحلفاء من قبل أي لاعب سياسي كان، ولا يحق لأحد أيضا أن يندّد بتغيير المواقف والمواقع حيال الأحداث المستجدة والطافحة بالمشهد السياسي الوطني، ولكن أن يصل المستوى إلى الانقلاب على مستوى المشاريع والاستراتيجيات والرؤى الكبرى، فهذا يضعنا حيال نقاط استفهام كبرى وتوجّس من أداء وخطاب الحركة التي يُتوقع لها أن تحظى بكتلة تشريعية معتبرة في البرلمان القادم.

فالمدونة السياسية التي صاغتها حركة النهضة منذ اجتماع باريس بين راشد الغنوشي والرئيس الراحل الباجي قائد السبسي، مرورا بمخرجات مؤتمراتها، والتي أفضت كلها إلى اعتبار التوافق خيارا استراتيجيا في البلاد، والاقتناع بأن الحل الدائم في تونس يُبنى من خلال “التيار الإصلاحي المؤمن بالدولة ورجالات الدولة المؤمنين بالإصلاح السياسي”، كلّها تمّ حذفها بجرّة قلم بمجرّد التغيير في المزاج الانتخابي الوطني، وانتقال جزء كبير من خزان النهضة الانتخابي إلى شخصيات وأحزاب سياسية أخرى.

والواقع الذي على الجميع الالتفات إليه هنا، أن حركة النهضة التي تُشارف على سنّ الأربعين بالمعنى التنظيمي، لم تبلغ بعد سن النضج السياسي والفكري على عكس ما تروّج في خطابها، لا فقط لأنّ لها ساقا في الدولة وأخرى في الثورة، بل لأنّ الأحزاب الكبرى لا تغيّر من توجهاتها وقناعاتها المرحلية الكبرى بمجرّد التغيير في الميولات الانتخابية.

ذلك أنّ الأحزاب الكبرى تدفع الفاتورة الشعبية والجماهيرية جراء قناعاتها، ولا تخشى من خسارة الجمهور إن ربحت مرحلية اللحظة وتقاطعت مع التاريخ في آفاقه التفسيرية، والأكثر من هذا أنها تتعاقد مع خزانها الانتخابي في الرؤى وتنخرط معه في نقاشات كبرى، حتى تكون خياراتها مبنية على التفاعل والتشاركية والمسؤولية الجماعية، لا على الارتجال والانطباعية أو الحربائية السياسية.

ألم تخسر الأحزاب الشيوعية الاشتراكية الكثير من جمهورها عندما قبلت التحوّل إلى أحزاب ديمقراطية اجتماعية تضامنية، ثمّ ألم تُغادر الشقوق المؤدلجة في التيار القومي، الأحزاب العروبية بعد أن قدمت الأخيرة أطروحات جديدة حول العروبة والديمقراطية والدولة الوطنية، وفي الحالتين، فإن الزمن التاريخي وطبيعة التقاطع الرمزي وتبيئة الخطاب، فرضت خيارات وإكراهات، وضرورات وأضرارا جانبية، وهي بالضبط حتمية التاريخ.

ثم أليس من المُفارقة، أن تدعي حركة النهضة أن ما روجته بالأمس، حول أهمية التوافق التاريخي بين الإخوة في الدم الدستوري، كان تكتيكا مرحليا لتجنب العاصفة الإقليمية، وأن عودتها اليوم للخط الثوري هو الأصل والاستراتيجيا بعد أن تأصل التمكين في الديار التونسية، في الوقت الذي لا تقدم فيه أي ضمانات للرأي العام بأن هذا الخطاب لن ينقلب رأسا على عقب بمجرد استشراف زلازل سياسية جديدة.

والحقيقة في هذا السياق أن الحركة استفادت من التلون ونجحت في تحويله إلى قاعدة عملية سياسية قد يكون من المجانب للصواب القفز على حقائقها ووقائعها.

فعلى مدى عقدين على الأقل لم تتغير الحركة في اعتماد ما يمكن أن نسميه بـ”الأجنحة المتكسرة”، حيث تحتوي أحد الفرقاء مستفيدة من دوره السياسي والاستراتيجي في لحظة معينة قبل أن تنقلب عليه بعد شفط دوره بالكامل وإنهاء تأثيره وفاعليته.

بنفس سيناريو الأجنحة المتكسرة، استفادت حركة النهضة والتيارات الإسلامية ككل، من التيار القومي والعروبي، خلال العشرية الأولى من الألفية الثالثة تحت عنوان “المؤتمر القومي الإسلامي”. ووظفته للسيطرة على التيار الهوياتي في العالم العربي وللاستيلاء على دوره المقاوم في الكثير من المحطات واستمالة بعض الأنظمة العربية المعروفة بقربها من التيار القومي، قبل أن تنقلب عليها جميعا أحزابا ومقاربات وعواصم عربية.

وفي تونس تحديدا استفادت حركة النهضة من جملة من الأحزاب الحداثية على غرار المؤتمر من أجل الجمهورية وحزب التكتل من أجل العمل والحريات، وروجت لهما الحركة “خطاب أجنحة الوطن” في إشارة إلى التحالف المحوري بين التيار المحافظ والحداثي، قبل أن يدخل المؤتمر في إشكاليات وظيفية عميقة والتكتل في أزمة هيكلية على وقع الانشقاقات العديدة.

وعند تفطن حركة النهضة إلى أن اللحظة السياسية في تونس، إبان 2013 و2014، لم تعد تتطلب جناح العلمانية الثورية، استعاضت به بجناح الدولة العميقة ممثلا في حزب نداء تونس.

ولم تقصر الحركة حينها في بلورة خطاب جديد، حول جناحي تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس، وقيمة التوافق بين التيار الإصلاحي وتيار الدولة العميقة.

وبمجرد أن مرت عاصفة استدرار السيناريو المصري في تونس، وسقط النداء في دوامة الاستقالات والانشقاقات، حتى بدأت النهضة في اللعب على جناح جديد، متمثل في توافق “تحيا تونس ومشروع تونس” بقيادة يوسف الشاهد ومحسن مرزوق.

وقد بوأت النهضة لتحالفها الجديد مع الشاهد ومرزوق، منطقا جديدا، قوامه تحالف استمرارية الدولة والحكومة بفعل جناح النهضة والأجنحة المتبقية من نداء تونس.

اليوم لن تجد حركة النهضة، مسوّغا جديدا لتحالفاتها الجديدة، سواء مع الكتلة الثورية القادمة على مهل، أو مع كتلة نبيل القروي.

لا إشكال أخلاقيا أو سياسيا لدى النهضة في اجتراح خطاب الجناح الثاني لتسيير دواليب الدولة، طالما أن التوافقات الكبرى في البرلمان وفي رئاسة الحكومة ستمر عبرها، فلها في كل مرحلة خطاب ولكل تحالف منطق ولكل حليف منطوق.

ولا إشكال لها في توظيف الحركة أو الشخصية اللازمة، واستثمارها في ظل التماوج السياسي الحاصل، المفيد أن تبقى الحركة في قطب رحى الحكم والحكومة وإن غيرت خطابها وسياساتها ومشاريعها، طالما أنها تجد في كل مرة من يقبل دور ذكر النحل ومن يرضى بلعبة الأجنحة المتكسرة.

9