تونس.. أين وصل قطار الصلح الجزائي؟

التقدم في قضية استرجاع الأموال المنهوبة، وهو من بين أبرز الملفات التي تعهد قيس سعيّد بتسويتها بعد اتخاذه الإجراءات الاستثنائية في يوليو 2021 للخروج من الأزمة المالية، لا يزال جامدا.
الاثنين 2024/01/22
اقتصاد يبحث عن نقطة ضوء للانتعاش

قد تشكّل مصادقة البرلمان التونسي على تعديل مشروع قانون الصلح الجزائي، الذي أقر عام 2022 للتسوية مع رجال أعمال متورطين في قضايا فساد، خطوة لإعطاء نفس جديد لأعمال اللجنة الموكل لها حل الملفات الشائكة، لكن يبدو أنها ليست كافية لإزالة العثرات أمامها.

مبادرة الصلح الجزائي أحد البرامج التي يتبناها الرئيس قيس سعيد، وأكد مرارا منذ الحملة الانتخابية للرئاسة في 2019 أنها أولوية قصوى، في مضمونها العام تعد طريقة لفض معضلة ظلت جاثمة على الدولة لسنوات طويلة، ومع استمرار الجدل بشأن اللجنة الموكل لها حل المشكلة تعج في الأذهان تساؤلات بشأن هذا المسار المعقد.

ولا يزال التقدم في قضية استرجاع الأموال المنهوبة جامدا، وهو من بين أبرز الملفات الشائكة التي تعهد قيس سعيّد بتسويتها بعد اتخاذه للإجراءات الاستثنائية في يوليو 2021 للخروج من الأزمة المالية، فالمبلغ المستهدف استرجاعه يمثل أكثر من ضعفي التمويل الذي تسعى تونس للحصول عليه من صندوق النقد الدولي والمقدر بنحو 1.9 مليار دولار.

الصلح الجزائي يطالب بالأساس رجال الأعمال المتورطين في نهب ثروات البلاد بإنجاز مشاريع تنموية داخل المناطق المفقرة والأقل حظا في التنمية، تتعلق ببناء مدارس ومستشفيات ومرافق خدمات وتوفير موارد رزق للعاطلين عن العمل وغيرها.

◙ أعين التونسيين ستظل تترقب آثار جرعة تعديلات قانون الصلح الجزائي، والذي يبدو أن شريحة منهم لا تهمها هذه القضية أساسا، بقدر ما يهمها كيف تتصارع مع وضع اقتصادي خامل

لكن هذه الرؤية ينتقدها الكثيرون لأن تحقيق ذلك في نظرهم أمر معقد وصعب لا يتماشى مع الإجراءات القانونية والإدارية والقضائية الطويلة التي يتوجب أن يسلكها أي ملف قبل طي صفحته نهائيا. كما يرتكزون على نقطة أخرى تتمثل في شكوكهم في عدد المورطين، بما يفتح الباب أمام التكهنات بأن المبالغ المستهدفة أكثر من المعلنة.

ويجب التذكير في هذا السياق المليء بالتناقضات ببعض المعطيات التي لها علاقة بالوثيقة الأساسية، التي بني عليها مشروع الصلح الجزائي المثير للجدل، وهي تقرير تقصي الحقائق حول الرشوة والفساد لعام  2011 الصادر عن لجنة تأسست في سياق خاص آنذاك لامتصاص غضب الشارع من نظام حكم يقال عنه إنه جوّع الشعب ودمر الدولة.

تلك القائمة كانت تضم فقط أسماء شخصيات سياسية واقتصادية وإدارية في فترة حكم الرئيس الراحل زين العابدين بن علي، وهو ما يعني أن سياسيين ورجال أعمال وموظفين كبارا في الدولة راكموا ثروات فاسدة قبل تلك الفترة وبعدها لم يكونوا مشمولين في القائمة. وهذه نقطة جدل أخرى.

وعند معاينة التقرير لا يمكن العثور على قائمة واضحة بأسماء من تحوم حولهم شبهة التورط في جرائم اقتصادية أو فساد، بل يتضمن فقط إحالات، وعددها 463، صادرة عن لجنة تقصي الحقائق إلى وكلاء الجمهورية (النيابة العامة)، واللافت أنها تشمل أفراد أسرة بن علي ورجال أعمال وسياسيين وموظفين ومحامين وحتى مواطنين عاديين، وبالتالي المآخذ تتمثل في عدم تعقب الفاسدين القدامى.

على أمل القطع مع المسار القديم للحكومات السابقة تم إنشاء لجنة في مارس 2022 بمرسوم رئاسي، وتم تعيين أعضائها في نوفمبر من العام نفسه، وتتمثل مهامهم في إبرام صلح جزائي مع المتورطين في الفساد قبل 2011، والذين كانت الحكومة قد أعدت بشأنهم قائمة بعد سقوط بن علي، بيد أنها لم تحقق شيئا يذكر حتى الآن.

وامتدادا للحالة القائمة سبق أن أكد الرئيس سعيد أن أسماء المعنيين بالصلح الجزائي معلومة ولديهم ملفات، مستغربا من “تخفيض عددهم حتى وصل إلى الصفر رغم اعتراف المتهمين”. وهنا تساؤل آخر يُطرح حول من له المصلحة في تعطيل الملف برمته.

◙ التقدم في قضية استرجاع الأموال المنهوبة لا يزال جامدا، وهو من بين أبرز الملفات الشائكة التي تعهد قيس سعيّد بتسويتها بعد اتخاذه للإجراءات الاستثنائية في يوليو 2021 للخروج من الأزمة المالية

للوهلة الأولى بدت اللجنة في طريق مفتوح لاستعادة أموال الدولة المنهوبة ممن تورطوا في اختلاس المال العام وتوظيفها في تحقيق مشاريع واستثمارات في البلاد، لكن قطارها متوقف في محطة لا يعلم أحد متى سيستأنف مساره خاصة وأنها لم تنجز مهمتها في الوقت المحدد لأسباب قانونية وأخرى إجرائية.

برز ذلك بوضوح عبر إقالة رئيسها مكرم بن منا في مارس الماضي، وكان ذلك تعبيرا من الرئيس عن استيائه وامتعاضه من التقصير في تسريع وتيرة حلحلة الملف، الذي يرى أن كل الإمكانيات متوفرة للجنة للقيام بمهمتها، وأن القضايا المطروحة لا تحتاج إلى المزيد من الاختبارات والمعاينة للتدقيق فيها. بل ذهب إلى أبعد من ذلك باتهام أطراف، لم يسمّها، بمحاولة عرقلة هذا المسار.

كان يفترض أن تحقق اللجنة الهدف في ظرف ستة أشهر كما هو محدد، حتّى لا يتمّ الاضطرار إلى تمديد عملها على أن تتولى استرجاع الأموال والعمل بكل حرية واستقلالية، لاسيما وأن الوثائق التي تثبت حقوق أفراد الشعب موجودة لدى القطب المالي وفي تقرير لجنة تقصي الحقائق، بيد أن قطار الصلح الجزائي ظل يسير ببطء شديد حتى توقف لأسباب مجهولة.

والمؤكد أن 13.5 مليار دينار (5 مليارات دولار) التي يجب إعادتها مقابل صلح جزائي قد تسد فجوة من اقتصاد يبحث عن نقطة ضوء للانتعاش. لكن حتى الوصول إلى مخرج النفق ستظل ثمة عقبات كثيرة ما لم تتغير عقلية من يديرون أجهزة الدولة التي يفترض أنها جدار الصد الأول أمام الأزمات.

أعين التونسيين ستظل تترقب آثار جرعة تعديلات قانون الصلح الجزائي، والذي يبدو أن شريحة منهم لا تهمها هذه القضية أساسا، بقدر ما يهمها كيف تتصارع مع وضع اقتصادي خامل أثقل كاهل قدرتها المعيشية بأعباء ثقيلة نتيجة أخطاء الآخرين.

9