تونس: أرخبيل من الجُزر البرلمانية

كثيرة هي التوازنات والأوزان السياسية التي تغيرت بين الانتخابات التشريعية الحالية والسابقة في 2014، وكثيرة هي أيضا الانقلابات الحاصلة في المشهد السياسي التونسي والتي تفرض قراءة عميقة ومتأنية لجغرافيا لا تلبث تستبدل الفاعلين المركزيين والهامشين على حدّ السواء.
5 سنوات كانت كافية، لوضع شبه نهاية لأفيال المشهد السياسي التونسي على غرار نداء تونس وملاحقه والجبهة الشعبية. فالأول أرهقته واستنزفته حروب الداخل وسوء إدارة الابن. والثاني أتعبه طغيان نزاعات الزعامة وتكلس خطاب التضاد لبعض الخصوم.
و5 سنوات أيضا كانت كافية، لبروز أشكال جديدة من التنظم السياسي من الكيانات الانتخابية الوظيفية إلى الائتلافات الشعبوية، ومنها إلى القائمات المستقلة التي أحرزت مقاعد برلمانية معتبرة، ويمكنها أن تشكل كتلة برلمانية واسعة ووازنة في حال تحالفت مع بضعها على برنامج سياسي موحد.
و5 سنوات أيضا، كانت كافية لكي تبدأ الأحزاب الهادئة في جني الثمار الانتخابية، ونعني بها حركة الشعب، الحزب العروبي، والتيار الديمقراطي، ولن نجانب الصواب إن قلنا بأن جزءا من الخزان الانتخابي اليساري توجه إليهما، نظرا لثقلهما في التعاطي مع قضايا الهوية والعائلة والحريات الفردية ومحافظتهما على معالم خطاب اليسار التضامني الديمقراطي.
ودون سقوط في تقديم استنتاجات غير مكتملة بفعل عدم تقديم هيئة الانتخابات للأرقام النهائية، أو بسبب أن الاستنتاج يتطلب بحثا علميا مستوعبا للظاهرة ولتجلياتها، فإن المحصلة الانتخابية تشي بأننا حيال برلمان شبيه بسفينة نوح، يحمل كل المتناقضات ويحتوي كافة المشارب السياسية الحزبية وغير الحزبية، الغالبية البرلمانية فيه أقلية في الحكم، والمعارضة فيه غالبية برلمانيّة دون أن تكون لها الرغبة في العمل المشترك.
الإشكال الأساسي أن الكتل البرلمانية الأولى ترتيبا، هي كتل برلمانية متنافرة ومتضادة، حيث يرفض كل طرف التحالف مع الآخر، بل إن الخطاب السياسي لكل طرف منها بُني على التناقض الضدي، الأمر الذي يجعلنا حيال استعصاء حقيقي في مستوى تشكيل الحكومة القادمة.
وعندما يُبنى القانون الاقتراعي على فلسفة منع التغول والحيلولة دون الاكتساح دون أن يفكر في التأسيس للاستقرار الحكومي أو التأصيل لمبدأ المحاسبة والمساءلة، فإنه قد يفضي إلى جزر برلمانية متناحرة لا يمكنها التعايش ناهيك عن التحالف البرلماني والحكومي، وهو ما تم في برلمان 2019.
المفارقة التي نحن حيالها اليوم، كامنة في وجود كتل برلمانية إن استطاعت فرضا أن تشكل حكومة بالنصف زائد واحدا، فيستحيل عليها إدارة منظومة الحكم في البلاد بغالبية الثلثين.
ولأن الاستحقاقات الدستورية القائمة والمتمثلة في تشكيل المحكمة الدستورية وانتخاب أعضاء هيئة الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد، وهي كلها استحقاقات لا تتحقق إلا بغالبية الثلثين، فإن جمودا حقيقيا يتربص بمنظومة الحكم والحكومة على حد السواء.
صحيح أن حركة النهضة استطاعت أن تفوز بالانتخابات البرلمانية، وأن تكون تقريبا التنظيم السياسي الوحيد الذي حافظ على هيكلته وشعبيته- وإن في الحدود الدنيا- وصحيح أيضا أنها ستكون الطرف السياسي الذي ستناط بعهدته تكوين الحكومة القادمة، ولكن الواقع الذي يفرض نفسه أن الذين يرفعون الفيتو ضد التحالف والتقارب معها، يجسدون وزنا برلمانيا واسعا مثل قلب تونس والدستوري الحر، والتيار الديمقراطي وغيرهم.
وعندما تكون حيال مشهد برلماني، الكتلة الفائزة عاجزة عن تكوين حكومة بحزام برلماني أقلياتي، وفيما الكتل المعارضة لها تقارب على التناصف التشريعي ولكنها في المقابل رافضة للتحالف في ما بينها، فنكون حينها حيال برلمان هجين لا يُمكّن الفائز القدرة على الحكم، ولا يمنح المعارضة القدرة على تغيير المعادلات.
يحتفل أنصار النهضة حاليا بنصف انتصار، متمثلين فكرة الرسوخ في المشهد السياسي، ويتجرع قيادتها مرارة نصف الهزيمة، حيث الاستعصاء البرلماني القادم ما بين صعوبة تشكيل الحكومة وإدارة الحكم وما بين إكراهات الداخل والخارج.
حيال هذا الأرخبيل من الجزر البرلمانية تُطرح سيناريوهات عديدة، على غرار تشكيل حكومة مصلحة وطنية تحظى بدعم برلماني على أساس البرنامج الاقتصادي وتنال الإسناد من الرباعي الراعي للصالح الوطني في التسمية الجديدة لرباعي الحوار.
فيما يقدّم آخرون سيناريو سلام الشجعان وتعايش الضرورة بين فرقاء الأمس وخصوم اليوم، معتبرين أن النهضة التي قبلت التحالف مع النداء قد تقبل في ظروف معينة التقارب الموضوعي مع “قلب تونس”. وما بين الخيارين، يطل خيار إعادة الانتخابات التشريعية في مارس 2020، كآخر دواء للتطبب من داء التشرذم.
ولئن نزل خبراء الاقتصاد، سنة 2020، ضمن منظومة استئناف دوران عجلة الاستثمار والتنمية، فإن الدخول في أزمة برلمانية عنوانها العجز عن تشكيل حكومة تحظى بحزام برلماني واسع سيفضي إلى انتكاسة حادة في سيرورة الاقتصاد والتنمية في البلاد.
أي هذه السيناريوهات ستُعتمد في تونس، لا أحد بإمكانه أن يحسم في الأمر، ولكن ما هو أكيد أنّ جزءا من الإجابة سيُرحل إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية، والجزء الآخر سيُرحّل إلى الرباعي الراعي للحوار، والآخر إلى العقل الجماعي التونسي.