تمسّك الأسرة المصرية بمقاضاة المتحرشين يضع حدا لانتهاكاتهم

تعامل المحكمة مع التحرش كقضية مخلة بالآداب العامة يمنع التفريط في حق المجتمع بعد التصالح.
السبت 2021/09/25
المرأة مطالبة بتتبع المتحرش

لم يعد تنازل الأسر المصرية عن حقها في مقاضاة المتحرشين سببا في إسقاط العقوبة عنهم، ذلك أن تفعيل القضاء لحق المجتمع في محاكمة المتهم بالتحرش يقود أولا إلى نيله العقوبة التي يستحقها، وثانيا إلى تطهير البيئة السكانية من هواة انتهاك الأعراض. كما لم تعد الجهات المختصة تنتظر تقديم شكوى من الضحية أو أسرتها، بل تتحرك من تلقاء نفسها لتعويض غياب ثقافة الانتقام العائلي بالقانون.

القاهرة - مثّلت مساندة القضاء لضحايا التحرش الجنسي في مصر برفض تنازل أسرة الضحية عن مقاضاة الجاني خطوة مضيئة في سبيل القصاص من الذئاب البشرية التي اعتادت ارتكاب جرائم التحرش معتمدة على صمت الفتاة وولي أمرها ورضوخ العائلة للتنازل عن القضية والتصالح مع المتهم تحت ضغط الترهيب والوساطات وتدخل المعارف والأصدقاء.

وأقرت محكمة جنايات القاهرة قاعدة تاريخية أخيرا، تقرّ بأن تنازل الأسرة عن حقها في مقاضاة المتهم بالتحرش وهتك العرض ليس سببا في إسقاط العقوبة عنه، طالما أن المجتمع نفسه لم يتصالح أو يتنازل عن معاقبته لأنه يمثل خطورة على باقي النساء، ويشجع على تكرار السلوك دون ردع أو محاسبة تجبره على احترام المرأة.

في واقعة غير مسبوقة رفض القاضي الذي كان ينظر في قضية تحرش شاب بطفلتين وهتك عرضهما تنازل الأب عن مقاضاة المتهم بدعوى الحفاظ على مستقبله، وسأله “هل الواقعة حدثت بالفعل؟ فأجاب رب الأسرة بالإيجاب، وعندما سأله لماذا تريد التصالح والتنازل، قال: يكفي الشاب فترة حبسه قبل المحاكمة”، فأصدر القاضي حكمه بسجنه ثلاث سنوات.

انتصار السعيد: إقرار عقوبة خاصة بالمجتمع ضد المتحرش يسهّل مواجهة الجناة

وقال القاضي للأب “إذا كنت تريد التسامح في حق طفلتيك فالمجتمع له حق عند هذا المتهم بارتكاب جريمة التحرش وهتك العرض والعقوبة لا يمكن أن تسقط لمجرد أنك لا تريد إقرار عقوبة على من انتهك جسد بنتيك”، وهو الموقف الذي حصل على إشادة بالغة من منظمات حقوقية ومؤسسات معنية بمواجهة التحرش الجنسي الذي يتصاعد بوتيرة لافتة.

ورأى حقوقيون أن قيمة رفض القضاء تنازل الأسرة عن مقاضاة المتحرش تبرز في أن حق المجتمع من المتهم أصبح واقعا يصعب تغييره أو تجاهله، ما يضمن للنساء اللاتي تتنازل أسرهن عن حق مقاضاة الجاني أن يحصلن على حقهن في القصاص من المتهم، حتى لو قررت الأسرة التصالح معه وإرغام الضحية على الاستجابة لضغوطها.

وصار تنازل الكثير من الأسر المصرية عن حق بناتهن ضحايا التحرش أزمة تواجه الحكومة في التخلّص من الظاهرة وانتكاسة للخطوات الشجاعة التي تسلكها أغلب الفتيات لكسر ثقافة الصمت عن الانتهاكات الجسدية عندما لا يكون للأنثى حق تقرير مصيرها وتضطر إلى الخضوع لقرار أسرتها بالتنازل عن القصاص من المتهم.

ويعتقد متخصصون في شؤون الأسرة أن التعامل مع قضية التحرش يتكون من شقين، الأول حق الفتاة وأسرتها في الحصول على حقهما بالقانون، والثاني إقرار حق للمجتمع عند المتهم بحيث لو تنازلت الأسرة لا يخرج المتحرش من القضية بريئا دون أن ينال العقاب الذي يستحقه لتكون هناك أساليب ردع بعيدا عن سلبية الأسرة.

ميزة هذا النهج أنه يساند ضحية التحرش بشكل غير مباشر باعتبار أن تصالح العائلة مع المتهم يكون غالبا غير متوافق مع رغبتها كضحية، بل يأتي رغما عنها ولا تملك سوى الاستجابة لإرضاء أسرتها. أما عندما يتم حبس المتهم، سواء تنازلت الأسرة أم لم تتنازل، فهذا إجراء من شأنه تسريع وتيرة التعامل مع قضية التحرش من منظور مجتمعي وقانوني وليس من وجهة نظر أسرية بحتة.

التحرش جريمة يعاقب عليها القانون
التحرش جريمة يعاقب عليها القانون

ونجحت السعودية إلى حد بعيد في تحجيم ظاهرة التحرش بالتعامل مع هذا الفعل باعتباره من جرائم النظام العام، بمعنى أن تنازل المجني عليها أو أسرتها وحتى عدم تقديم شكوى رسمية أو رفع دعوى قضائية لا يحولان دون منح الحق للجهات المختصة في محاكمة المتهم للحفاظ على حق المجتمع في القصاص من الجاني.

ويرى متابعون لظاهرة التحرش في مصر أن تفعيل القضاء لحق المجتمع أولا في محاكمة المتهم بالتحرش يقود إلى تطهير البيئة السكانية نفسها من هواة انتهاك الأعراض، بحيث لا تنتظر الجهات المختصة تقديم شكوى من الضحية أو أسرتها، بل تتحرك من تلقاء نفسها لتعويض غياب ثقافة الانتقام العائلي بالقانون من المتحرشين لتقوم الدولة بهذا الدور.

تنازل الأسرة عن حقها في مقاضاة المتهم بالتحرش وهتك العرض لم يعد سببا في إسقاط العقوبة عنه

ويعتقد هؤلاء أن تعديل قانون الإجراءات الجنائية بشكل يمنع التصالح في جرائم التحرش هو الحل الأمثل لمواجهة الظاهرة، بحيث لا تجد الأسرة ثغرة قانونية تتنازل من خلالها تحت أي ضغوط تتعرض لها، مع سحب وصاية الأب أو العائلة على الفتاة التي ترغب في القصاص لنفسها من الجاني، كي لا يكون ذلك خاضعا لوجهة نظر القاضي في إقرار حق للمجتمع أم لا.

ما يفرض على الحكومة المصرية غلق باب التصالح في قضايا التحرش أن القضاء عموما لا يبحث في خلفيات تنازل الفتاة وأسرتها عن مقاضاة المتهم، فهناك ضغوط وتهديدات لا يتحملها بشر تكون واقعة على الطرفين ويسلكان نهج التصالح مجبريْن، بالتالي لا بديل عن وجود حصانة قانونية لكل فتاة ترغب في نيل حقها من المتحرش.

ومهما تحركت الحكومة لغلق ثغرة التصالح في جرائم التحرش تظل المعضلة الأكبر مرتبطة بسلبية الفتاة من جانب وأسرتها من جانب آخر، فلا يتم اللجوء إلى القضاء خوفا من الفضيحة وإلحاق العار بالضحية، وتجنب أن تكون سيرتها بين عموم الناس وتفضيل الصمت على الدخول في مواجهة محفوفة المخاطر مع المتهم وعائلته.

نساء تكسر حاجز الصمت عن الانتهاكات الجسدية في مصر
نساء تكسر حاجز الصمت عن الانتهاكات الجسدية

وصار حصول أي فتاة على حكم قضائي بحبس المتهم بالتحرش من الوقائع النادرة، ويرتبط ذلك بغياب ثقافة الانتقام من المتحرشين بالقانون أو تكرار تنازل الأسرة، وهنا تأتي أهمية أن يكون للمجتمع حق عند الجاني، ولن يتحقق ذلك قبل التعامل مع التحرش باعتباره جريمة مخلة بالنظام العام للدولة ويشوه صورتها داخليا وخارجيا.

وقالت انتصار السعيد، مديرة مركز مناهضة العنف ضد المرأة في القاهرة، إن إقرار عقوبة خاصة بالمجتمع على المتحرش يسهل مهمة المواجهة مع الجناة، ويرفع العبء عن الفتاة وأسرتها في بعض الأحيان، لكن المهم أن يقتنع أرباب الأسر بأنه لا يمكن القضاء كليا على التحرش دون شجاعة منهم حفاظا على نساء المجتمع عموما.

وأضافت لـ”العرب” أن “توقيع عقوبة على المتحرش بغض النظر عن التصالح معه من عدمه يبرئ الفتاة من أقاويل تنال من سمعتها وشرفها ويجعلها مرفوعة الرأس ولا يضعها في موقف يجعلها عرضة للاستهداف بالقول أو الفعل، والأهم وجود مساندة أسرية واقتناع بأن المتحرش مجرم لا يجوز التهاون في مقاومته تحت أي ضغط أو مساومة”.

كما أن محاكمة المتحرش قصاصا للمجتمع نفسه ستكون رسالة ردع له ولغيره كي لا يتم ارتكاب المزيد من الوقائع المماثلة، لأنه في أغلب وقائع التحرش يتصدر المشهد كبار العائلة ليتم التفاوض مع الجناة والحل بشكل ودي، وينتهي الأمر في جلسات عرفية بعيدا عن ساحات القضاء ويخرج الجاني منتصرا، كأن شيئا لم يحدث.

21