تقييم الأعمال الدرامية: هل هو مدح وإطراء أم ذم وتجريح؟

أزمة النقد التلفزيوني.. كيف يستوي الظل والعود أعوج.
الاثنين 2021/04/26
أعمال درامية في بازار النقد المصلحي

منذ الحلقات الأولى للأعمال الدرامية الرمضانية هذا العام انطلق الكثيرون على مواقع التواصل أو حتى في الصحف والمواقع الإعلامية في تقديم تقييمات متسرّعة لهذه الأعمال، تنقسم بين المدح والذم، لأسباب شخصية على ما يبدو، أو في أحسن حالاتها هي ادعاء للموضوعية فيما هي انطباعات متعجّلة. ويبقى النقد ضروريا لكن ترسيخه ليس سهلا في بيئة عربية ترفض الاختلاف.

منصات إلكترونية كثيرة بدأت تتسابق على تقييم الأعمال المشاركة في هذا الماراتون الدرامي، منوهة إلى أنه، ومن المقرر أن تعلن لجانها عن أسماء المسلسلات المستمرة، في مرحلة أولى بعد “استبعاد المسلسلات التي لن تحصل على الحد الأدنى من التقييم”.

من تكون هذه اللجان، من سماها، كيف اختارت أعضاءها، ووفق أي مقاييس؟ ما مدى صدقية وموضوعية هذه اللجان وسط بازار نقدي تتحكم فيها الشركات المنتجة والمصالح الفئوية، الأهواء المزاجية المتقلبة والمعايير النقدية المتباينة.

معضلة التقييم

لنبدأ من الجهات المنظمة لهذه المسابقات والتقييمات، هل شاهدنا، إلا في ما ندر، جهة رسمية تنظم مهرجانا أو حفلا أو مسابقة دون أن تفوز فيه بجائزة؟ فما بالك بجمعيات ومنصات خاصة تتحكم فيها المصالح والمحاباة إلى حد النخاع، لا بل قد يتودد إليها أعضاء لجنة التحكيم ويمنحونها الجوائز دون أن تطلب منهم ذلك، أي أنّ السادة المحكّمين قد يورطونها في نوع من “الارتشاء” حتى وإن أرادت “تعففا”.

لننتقل الآن إلى المواد والأعمال التي تدخل مثل هذه المسابقات غصبا عنها أحيانا، إذ من غير المعقول، وحتى في عالم الخيول، أن يدخل المسابقة الواحدة أكثر من جنس ونوع وعمر. وهذا هو الحاصل في الحصاد التقييمي عند نهاية كل موسم رمضاني.

توضع جميع الأعمال في سلة واحدة ويُطلب من النقاد والجمهور الاختيار والمفاضلة بينها، فهل من واجبي أن أختار دون حقي في التحفظ والاستنكاف. من قال لكم إني أرغب في شيء آخر غير موجود على مضمار سباقكم؟

المسلسلات المعروضة هذا الموسم تجمع بين الدراما الاجتماعية والرومانسية والبوليسية والوطنية والتاريخية، وذلك بدرجات وكميات متفاوتة من حيث عدد الحلقات وتوقيتها وراهنية المواضيع التي تطرحها.

المشهد النقدي مرتبك وعديم الملامح الصارمة، فإما مدح وإطناب حد الإسفاف أو تحامل  وتهجم حد الإيذاء

هذا بالإضافة إلى الأعمال الكوميدية التي تتفاوت بدورها بين “السيت كوم” و”السبوت لايت” والفانتازيا التاريخية والكوميديا الاستعراضية، وغيرها من حلقات متصلة وأخرى منفصلة.

أمّا في ما يتعلق بطبيعة الأشخاص الذين يدلون بدلوهم في هذا العمل أو ذاك، من نقاد “متخصصين” أو جمهور “عفوي” فحدث ولا حرج.

علماء النفس والمتخصصون في سبر الآراء يجتمعون حول فكرة سطوة السؤال عن رأيك، فبمجرد أن تُسأل عن ذلك تبدأ، وفي ثوان قليلة، بالاستفسار عن هوية هذا السائل والجهة التي يمثلها أو تقف وراءها ثم تتحرك آلية المجاملة والاسترضاء، إلى درجة أن بعض الناس يبدي رأيه من خلال “لوغو” الميكروفون الذي أمامه، فلكل قناة توجهها وخطها التحريري، حتى أن من الجمهور والنقاد من يدلي برأيين متناقضين لوسيلتين إعلاميتين متصادمتين، ودون أدنى إحساس بالانفصام أو الذنب أو النفاق.

هذا على المستوى السيكولوجي الفردي في معضلة التقييم وإبداء الرأي، أما على المستوى الواقعي والموضوعي، فالنقد من الملكات التي لا تتوفر عند أي كان، بدليل أنه اختصاص يُدرس في الجامعات والمدارس المتخصصة ثم أنه أنواع وتفرعات، فالنقد الانطباعي غير التطبيقي، والنقد المنهجي المبني على أسلوب أو مدرسة غير النقد العفوي أو الذاتي أو ذاك المنصاع للذائقة العامة.

وبالعودة إلى موسم السباق الدرامي في هذا الشهر، فإن عوامل كثيرة تتحكم في تقييم الأعمال المقترحة، خصوصا إذا تعلق الأمر بالساحة العربية ككل، إذ غالبا ما تحضر النزعة المحلية القطرية على حساب التقييم الموضوعي الموسع على امتداد العالم العربي، إذ ليس من المسلّم به أن ينتصر المصري مثلا لعمل مغاربي أو خليجي أو من بلاد الشام والعراق. وقس على ذلك بالنسبة إلى الآخرين من أبناء اللغة الواحدة واللهجات المتعددة.

الثقافة وسعة الاطلاع عاملان أساسيان يؤثران في النقد والتقييم، فليس من العدل أن نساوي بين مثقف ورجل بسيط أو بين ربة بيت وزوجها، أو بين جيل وآخر. وهنا يتأتى السؤال الجوهري المركّب: من يصنع الدراما ولمن يتوجه بها، وما هي الأرضية المشتركة التي تجمع الدراما العربية أو “الدرامات العربية” وأين نلتقي وأين نختلف؟

النقد والاختلاف

Thumbnail

المتتبع لمسلسلات هذا العام يلحظ فوارق في المواضيع المطروحة وأساليب المعالجة التقنية والفنية في العالم العربي إلى حد التناقض، فما تقدمه الشاشات الخليجية مثلا يختلف عما تقدمه نظيراتها المصرية أو المغاربية وهكذا دواليك.

ونسجل تطورا للإنتاج الخليجي من حيث الاهتمام بقضايا المرأة والإقلاع التدريجي عن مواضيع تخص الصراعات حول الإرث العائلي وما ينجر عنه من خلافات، وكذلك تبرز جرأة التونسيين في الولوج إلى الواقع المعاش من خلال أماكن السهر والعلاقات بين الشباب والبنات التي اتهمها البعض بعدم احترام التقاليد الدينية في شهر رمضان، رغم أنها تنقل الواقع بحذافيره دون مبالغة أو تحريف، وربما بسبب ذلك التف حولها الجمهور التونسي أكثر من أي وقت مضى، ولم تعد الأعمال العربية تعنيه مثل الأوقات السابقة.

 أما الأعمال السورية اللبنانية المشتركة فتشكو من عدم التكافؤ في الأداء بين ممثلين سوريين لهم باع وممثلين لبنانيين لا يضاهونهم حرفية، بالإضافة إلى بعض الفبركة والتصنع في نسج سردية روائية تجمع بين الطرفين.

وانطلاقا من هذه المعطيات الموضوعية يأتي المشهد النقدي مرتبكا وعديم الملامح الصارمة، فإما مدح وكيل لعبارات الإطناب إلى حد الإسفاف أو تحامل وتهجم إلى حد الإيذاء والتجريح. وينطبق هذا الأمر على مدّعي النقد الموضوعي وأصحاب “الرأي العفوي” من الجمهور الموسع، ذلك أن الفهم السائد للنقد يشبه حضور مباراة كرة قدم: إما رابح أو خاسر، وإما “أهلاوي” أو “زملكاوي”.

يغيب عن أذهان الكثيرين منا أن النقد هو بناء يناظر الأثر الإبداعي دون أن يلاحقه أو يمشي في ظله ثم أنه غير معني بالمفاضلة المطلقة وإنما يقرأ في العمل بمنطق ثنائية التفكيك والتركيب، ويحاول أن يتغلب على مجموعة التأثيرات التي من شأنها أن تشوهه وتخرجه من سكة النزاهة والموضوعية.

أمام هذه الضبابية والفوضى النقدية المتوهة، دعونا نحتكم إلى نوع من “الكوجيتو” القائل بـ”كيفما كنتم يُتلفز عليكم، وكيفما كنتم يكون الخطاب النقدي وتشتغل آلة التقييم”.

إن التأسيس لمشهد نقدي بناء يتطلب الأخذ بكل أسباب غياب هذا النقد وفق ما تقدم ذكره، بالإضافة إلى تعميق التربية بجدوى الاختلاف، والإبقاء على أرضية مدى اقتراب أو ابتعاد ما يقدم من الواقع، ومدى مواكبته للمعايير الموضوعية المعتمدة عالميا، لا عبر تجاهل الخصوصية الثقافية والاجتماعية، وإنما بمجاراة التقنيات الحديثة والاستفادة من منجزات التكنولوجيا الرقمية، ونبذ أوهام التعصب والانتصار لأبناء البلد الواحد خاطئين كانوا أو مصيبين.

ولعل لظاهرة الإنتاج المشترك التي بدأت تظهر في السنوات الأخيرة فضل في تذويب ذلك التعصب على أساس البلد الواحد، أما المدح أو الذم باستخدام صيغ التفضيل والمبالغة، فلا شفاء من هذه الظاهرة المقيتة وهذا المرض العضال إلا بتعليم الناشئة منذ الصغر، أساليب القراءة الموضوعية باعتماد الأساليب التفكيكية البعيدة عن الانطباعات والتعاطفات السريعة.

وفي النهاية فإن “الظل لا يستوي والعود أعوج” أي أن الأزمة في الإنتاج التلفزيوني على مستوى البناء والمحتوى تنتج أزمة في النقد والتقييم على مستوى المتفرج العادي والناقد المتخصص.

15