تعليق الفعاليات والأنشطة الثقافية يشلّ حركة الإبداع

مع موجة الإغلاق الثانية التي تشهدها مصر على غرار بقية بلدان العالم توقّيا من فايروس كورونا، توقفت الأنشطة الثقافية، ما أعاد الشلل من جديد إلى قطاع لم يتعاف بعد من موجة الإغلاق الأولى، وهو ما دفع بالكثير من المثقفين والفنانين والكتاب والفاعلين الثقافيين إلى المطالبة بحلول أخرى غير الإغلاق والاتجاه إلى العالم الرقمي الذي أثبت قصوره لأسباب عديدة.
القاهرة – يطل وجه القتامة من جديد على مجال الثقافة وحركة الإبداع الأدبي والفني وقطاعات النشر والطباعة والورق مع موجة الإغلاق الثانية التي صاحبها تعليق الفعاليات الثقافية تباعًا لأسباب احترازية، وتوقف أنشطة قطاع الفنون التشكيلية، وإلغاء المؤتمرات والمهرجانات المسرحية والسينمائية وغيرها، وتعطيل سائر الاحتفاليات إلى أجل غير مسمّى.
وفي حين تفتقد المؤسسة الرسمية بوصلة إيجاد البدائل الملائمة لتفادي الأزمة الراهنة، فإن مثقفين ومبدعين يقترحون حلولًا مختلفة عمّا جرى انتهاجه في موجة الإغلاق الأولى.
فشل الفضاء الإلكتروني
بدأت بواكير موجة الإغلاق الثانية في مصر بالإعلان عن تأجيل معرض القاهرة الدولي للكتاب من يناير الجاري إلى 30 يونيو المقبل، ما شكّل ضربة قاصمة لقطاعات النشر والطباعة والورق التي تكبدت خسائر مادية كبيرة بسبب إلغاء المعارض العربية واحدًا تلو الآخر، حيث انخفضت مبيعات الكتب بنسبة تتجاوز 75 في المئة، ووصلت الصناعة إلى بوارٍ لم تشهد مثيله من قبل.
وتوالت مشاهد الإغلاق والتعليق والتأجيل في الأيام الماضية، جرّاء القرارات التي أعلن عنها مجلس الوزراء المصري لأسباب صحية في مواجهة تداعيات جائحة كورونا، حيث ألغيت كافة المؤتمرات الدولية والمهرجانات والاحتفاليات في المسرح والسينما والفنون المختلفة، منها المهرجان القومي للسينما المصرية للأفلام الروائية الطويلة والتسجيلية والقصيرة والتحريك، وغيره، ولم يعد مسموحًا بالوجود سوى للعروض المحلية فقط في أضيق الحدود، وفق إجراءات صحية مشددة.
وحتى هذه العروض التي لم توقف بعد بقرارات رسمية، سلك الكثير منها المسار ذاته خوفًا على صحة المواطنين والفنانين، فأوقفت إدارة المسرح القومي بروفات مسرحية “مورستان” المستمدة من مسرحية “بير السلم” لسعدالدين وهبة، التي كان مخططًا أن تلعب بطولتها سميحة أيوب بعد غياب خمسة عشر عامًا عن المسرح.
وأعلن قطاع الفنون التشكيلية تعليق جميع الفعاليات الثقافية والفنية المحلية والعربية والدولية التي ينظّمها إلى حين إشعار آخر، ومنها “صالون الشباب” وأنشطة قصر الفنون. ومضت بدورها القاعات والغاليريهات الخاصة إلى الإغلاق التدريجي بالرغم من عدم صدور قرارات رسمية بشأنها، لكن إجراءات قطاع الفنون صبغت المناخ التشكيلي العام بالركود.
واتسمت موجة الإغلاق الأولى بملامح سلبية كثيرة أثرت على الفنون والآداب المتنوعة، وأضرت بحركة الإبداع وقطاع النشر وبالمشهد الثقافي برمته في مصر والعالم العربي، وكانت الخسائر الفادحة ذات شقين: فني جمالي مجرد، واقتصادي تسويقي.
موجة الإغلاق اتسمت بملامح سلبية كثيرة أثرت على الفنون والآداب المتنوعة وأضرت بحركة الإبداع وصناعة النشر
ولم يحقق الكتاب الإلكتروني البديل المشبع لذائقة القارئ، ولم تستطع تطبيقات النشر الرقمي مثل أمازون كيندل ووسائط الإنترنت أن تحلّ محلّ صفحات الورق وأحبار الطباعة بألوانها وروائحها المحببة، فتراجعت معدلات القراءة بالضرورة مع تراجع نشر الكتب ورقيًّا، وضعف توزيع الكتاب الإلكتروني الذي لا يزال غريبًا عن العالم العربي.
ولم يتمكن المسرح من فرض حضوره اللائق عبر الشاشات المنزلية وأجهزة الكمبيوتر والموبايل من خلال قنوات وزارة الثقافة المصرية على يوتيوب، التي استعاضت عن حفلات مسارح الدولة بعروض افتراضية، إذ لا يُمكن تخيُّل فن المسرح بدون العلاقة المباشرة مع المتلقي وجهًا لوجه، والعمل على جذب انتباهه واحتكار حواسّه طوال فترة العرض، كذلك ضمان بيئة تواصل خصبة بين الممثلين والمتفرجين، والإفادة من ردود الأفعال واستثمار كل الطاقات والمتّجهات التفاعلية في نسج الإضافات والارتجالات، وما إلى ذلك من السمات الأولية للفن العريق، إلى جانب ضرورة تحقق عناصره ومقوماته الأخرى مثل منصة العرض والشخصيات الحية والسينوغرافيا والإضاءة والموسيقى وغيرها.
وفي الفن التشكيلي، خصوصًا النحت، خسرت المعارض عبر البث الافتراضي ما يجب أن يتوفر لزائر القاعة من تأمل الأعمال بأبعادها وقياساتها المختلفة، وتلمس خاماتها وألوانها الطبيعية، وعلاقتها بالفراغ من حولها، فالصور الفوتوغرافية للأعمال والفيديوية المتحركة حتى، هي وسائط غير كافية للتفاعل مع المعطيات البصرية المؤثرة المدهشة.
وبالمثل، لم تسفر مبادرات “الأونلاين” عن نجاحات في تطوير سائر الفنون والإبداعات، وتمريرها للمتلقي بشكل يوحي بأن هذه المبادرات من الممكن أن تكون كافية وحدها لاجتياز موجة الإغلاق الثانية.
وكان للإغلاق خسائره الواقعية الواضحة التي لم يعوضها البث الإلكتروني والنشر الرقمي، وأبرز تجلياتها مجال إنتاج الأفلام السينمائية، وإنتاج الدراما التلفزيونية، وفي مسارح الدولة التي تضم الآلاف من الفنيين والعاملين، وفي قطاعات النشر والطباعة والورق، وغيرها.
مقترحات جديدة
حتى هذه اللحظة، لم تطرح المؤسسة الرسمية غير مبادرات “الأونلاين” على موقع وزارة الثقافة المصرية، وتلك المسارات الهشّة التي أثبتت قصورها، من عروض افتراضية وندوات ومؤتمرات بتطبيق زووم، ومساعٍ لتعزيز للنشر الرقمي وما إلى ذلك من تصورات محدودة لم تؤتِ ثمارها على النحو المأمول. فأين الأفكار المبتكرة والوسائل الجديدة للتعامل مع أزمة الإغلاق لتفادي المزيد من الخسائر، وحماية الفنون والآداب والإبداعات المتنوعة من التجمّد التامّ؟
إن المثير للدهشة ليس فقط تقليدية الحلول التي تطرحها وزارة الثقافة بقيادة إيناس عبدالدايم، إنما اتخاذها المعيار الكمّي الأجوف مقياسًا وحيدًا للنجاح بدون تحليل دلالاته العددية، فهي لا تكاد ترى تلك الخسائر الفنية والمالية المتراكمة بسبب تداعيات الإغلاق.
وذكرت الوزارة أن من مكاسب كورونا إطلاق الأنشطة الثقافية على الإنترنت، وتفاخرت بأنها أطلقت قرابة 84 ألف نشاط إلكتروني وحيّ، معتبرة أن مبادرة “خليك في البيت.. الثقافة بين إيديك” قدّمت البدائل المناسبة، وتتجه إليها مرة أخرى خلال موجة الإغلاق في العام الجاري.
وإذا افتُرِضَ جدلًا أن باب الفعاليات الإلكترونية بإمكانه أن يقدم متنفّسا ما للتخفيف من وطأة المشكلة، على محدوديته وقصوره، فهناك مسارات وأفكار أخرى يمكن انتهاجها لاحتواء الموقف وتقليص مسلسل النزيف، بدلًا من تكرار السيناريو السابق بدون تطوير أو إضافة أو خيال مبتكر.
وتؤكد المخرجة المسرحية والتلفزيونية منار زين في تصريح لـ”العرب”، أن الأنسب لحماية الفنون والآداب والإبداعات المتنوعة هو اتباع سياسة الإغلاق الجزئي غير الكامل، شأن ما يجري في مؤسسات الدولة الأخرى خارج الحقل الثقافي، مع الالتزام الصارم بالإجراءات الاحترازية، وتفعيل طرق حديثة للحجز المسبق لضمان محدودية العدد.
واقترحت بالنسبة إلى المسرح والسينما والتشكيل، تفعيل دور العرض غير المغطاة، واستخدام الحدائق والمساحات الخضراء المفتوحة كأمكنة عرض بديلة “هي فرصة مناسبة لدعم فنون الشارع أيضًا، ونشرها، ومن الممكن تلقي الجمهور هذه الأنماط من خلال شرفات منازلهم أو بالحضور المباشر الآمن” حسب قولها.
الكتب الإلكترونية ومبادرات التظاهرات “الأونلاين” من عروض افتراضية وندوات ومؤتمرات مسارات هشّة أثبتت قصورها لأسباب أغلبها تقني
ويقول الشاعر والناقد المسرحي محمود الحلواني، إن نفض الدولة يدها بسهولة عن مواصلة تقديم الفعاليات الثقافية يعكس فكرة أنها تتعامل مع هذه الأنشطة كديكور، مشيرًا إلى أن علاج الأزمة يبدأ من إعادة التفكير في جدوى هذه الأنشطة ومغزاها ودورها وتأثيرها، وعندما تبلور مؤسسة الثقافة أهدافًا جادة حقيقية لمنتجاتها، ستخلق فرصا للعرض والتمرير للجمهور باشتراطات صحية ملائمة، شأن أي نشاط ضروري في البلاد لم توقفه جائحة كورونا كلّيا.
ويوضح المخرج عادل حسان، مدير فرقة مسرح الشباب بالبيت الفني للمسرح، أنه مع استثمار الهامش المتاح في قرارات مجلس الوزراء التي أوصت بعدم منع العروض المحلية، واقتصار المنع على المهرجانات الدولية، وأن مسرح الشباب مستمر في عروضه مع تطبيق الإجراءات الاحترازية، وهذه المرونة أفضل من المنع الكامل الذي حدث في العام الماضي.
ويتطلع الكاتب منير عتيبة، المشرف على أنشطة مختبر السرديات في مكتبة الإسكندرية، إلى تطوير فعاليات الأونلاين التي يجري تنفيذها في مصر وبعض الدول العربية، لتكون مَعْبرًا أكثر تأثيرًا على مستوى الموضوعات ومساحة الوصول إلى الجمهور وجدية التفاعل معه.
ويشدد في تصريح لـ”العرب”، على أن ضعف البنية التقنية كان من أهم المشاكل التي قابلت هذه الفعاليات، وهو ما يجب الالتفات إليه من الجهات المعنية، بتفعيل بنية تحتية تقنية قوية تجعل النشاط مستمرًّا بلا انقطاع، خصوصًا أن الإقبال ليس من المجال الثقافي فقط، بل من كل المجالات وعلى رأسها التعليم بمستوياته المختلفة.
ويرى عتيبة ضرورة تنظيم لقاءات وأنشطة خاصة بالتقنية الرقمية. فمثلما هناك الرواية الرقمية مقابل الرواية الورقية، يمكن أن نذهب إلى النشاط الرقمي المستفيد بكل الإمكانات الهائلة للتقنية، حيث لا يمكن ممارسته إلا من خلالها، وهذا يستدعي وجود مديري نشاط على علاقة جيدة بالإمكانات التقنية أو متخصصين تقنيين على معرفة جيدة بالنشاط الثقافي، وتعاون الفئتين معًا يمكن أن يأخذنا إلى آفاق بعيدة في ممارسة العمل الثقافي.