تطوير منطقة الحسين بالقاهرة.. رسالة حضارية وسياسية ودينية

تتبنى الحكومة المصرية خطة لتطوير منطقة مسجد الإمام الحسين بالقاهرة، تتضمن رسائل بانتهاء عصر استئثار تيارات دينية بعينها بالمساجد التاريخية، وإعادة تقديمها كمزارات سياحية ودينية تفتح أذرعها لجميع الزائرين محليا وخارجيا، بشرط ابتعادهم عن السياسة وعدم ممارسات طقوس دينية غريبة.
القاهرة - يحمل تطوير مسجد الإمام الحسين بن علي في منطقة الجمالية وسط القاهرة، رسائل تتعدى ربطه بمشروعات إعادة تأهيل المناطق التاريخية في العاصمة المصرية، أو تعزيز التواجد الأمني في منطقة تتسم بكثافة الزيارات السياحية، لتتمركز حول استعادة رونق المنطقة كإحدى أهم المعالم الإسلامية.
خطط التطوير الموضوعة التي تتولى تنفيذها الهيئة الهندسية التابعة للجيش المصري، تؤكد رغبة حكومية في نيل شرف تحمل التكلفة المالية الكاملة لتطوير مسجد يقصده الآلاف بصورة أسبوعية للتبرك بالصلاة في رحابه، في سلوك غير معتاد بعد رفض هدايا مالية من بعض رجال الأعمال للمشاركة في المشروع.
تستهدف الحكومة إعادة تقديم المنطقة كمنبر للإسلام الوسطي بخلق رابطة بصرية بين الجامع الأزهر ومسجد الحسين القريبين، عبر إزالة المباني التي تتوسطهما وتحجب رؤية كل منهما للآخر، من بينها مبنى قديم لمشيخة الأزهر سيتم تحويله إلى ساحة مفتوحة مشتركة، ليصبح مسجد الحسين قادرا على استيعاب قرابة 7500 مصل من الرجال والنساء.
وأكد مصطفى مدبولي رئيس الحكومة في تصريحات أعقبت الاجتماع الذي عقده لبحث خطط التطوير، أن التحرك جاء بتكليفات رئاسية تنتهي بخلق تلائم بين شكل المسجد النهائي ومكانته الدينية والتاريخية والأثرية والمنطقة المحيطة به، بما يتماشى مع هدف إعادة القاهرة لمكانتها.
اهتمام بالشكل والمضمون
يسعى التطوير إلى تكرار نموذج الخدمات المتبع في المسجد النبوي الشريف في المدينة، بإضافة ساحات إضافية وتغطيتها بالكامل بمظلات، وتخصيص إدارات للتنظيم والنظافة، مع إضافة عناصر معمارية داخلية وزخرفية، وأنظمة إضاءة جديدة خارجية وداخلية ووسائل لمكافحة الحرائق، وتعزيزها بأنظمة أمنية حديثة للمراقبة ورصد المخالفات.
ويستهدف تنحية المشهد الحسيني في القاهرة عن الصراعات المذهبية، ويسعى المشروع إلى جعله مزارا دينيا وثقافيا وسياحيا له مذاق خاص يواكب موقعه الهام في قلب القاهرة الفاطمية ومجاورته لشوارع بيع المنتجات التراثية التي خلقت إيمانا لدى سكان المنطقة بتقبل ثقافة الاختلاف.
يظل مسجد الحسين، المكان المفضل لاحتفالات الطرق الصوفية، البالغ عددها قرابة 80 طريقة، سواء في العام الجديد أو في ذكرى استقرار رأس الإمام الحسين الذي يتفرد المصريون بإحيائها دون غيرهم من الشعوب، وينصبون خلالها خياما لخدمة الزوار وتقديم وجبات الطعام والشراب.
يشهد مسجد الحسين استنفارا أمنيا دائما من خلال دوريات متحركة في الاحتفالات الدينية وأيام العطلات في ظل تحريم بعض التيارات السلفية الاحتفالات الصوفية واعتبارها بدعة. وأحاطت وزارة الداخلية الشوارع المؤدية إليه ببوابات إلكترونية من جميع الجهات للكشف عن المتفجرات وإخضاع المارين للتدقيق.
وفي هذا السياق يقول سامح الزهار، خبير الآثار الإسلامية، لـ”العرب”، إن الكثير من الوفود تأتي خصيصا لزيارة مسجد الحسين، سواء كانت من السنة أو الشيعة، وتحول إلى مزار ديني ومركز للقيادة الروحية يأتي لها مريدون من الداخل والخارج.
تزيد الوفود الصوفية خلال الاحتفال بقدوم رأس الحسين إلى مصر في ديسمبر كل عام، وتأتي من دول إسلامية مثل ماليزيا وإندونيسيا وباكستان والشيشان بروسيا، ما يعتبره المجلس الصوفي الأعلى دليلا على أن منهجه الوسطي قادر على الانتشار عالميا كأحد حوائط الصد إزاء قوى التطرف والإرهاب.
ويرى مراقبون أن الاهتمام بتطور مسجد الحسين محاولة لإخراجه من الصورة المرتبطة بـ”الصراع” بين أتباع الصوفية والشيعة والسلفيين، وبناء صورة ذهنية جديدة له كمعلم سياحي يعكس استتباب الأمن دخل الدولة وقدرتها على بسط سلطتها ومواجهة محاولات الاستقطاب.
وتعزز سياقات أخرى مساعي الدولة لتقديم نفسها كمتحكم أول في إدارة المزارات الدينية، فتطوير مسجد الحسين تزامن مع قرارات تحمل العديد من الرسائل أولاها إلغاء موكب صوفي للاحتفال برأس السنة الهجرية في أول سبتمبر الجاري، وكان يفترض تحركه من مسجد سيدي صالح في منطقة الدراسة إلى المشهد الحسيني.
أصاب قرار منع الموكب الطرق الصوفية ومريديها بإحباط واضح، واعتبره البعض تراجعا في ثقة الدولة بالصوفية وقدرتها على مواجهة التيارات المتطرفة أو تغيير خطابها ليحظى بقبول لدى الشباب، مع تبرير الأمر بدواع أمنية، فالموكب سبق تنظيمه في أوضاع سياسية شهدت اضطرابات عنيفة.
هدمت محافظة الإسكندرية أخيرا، مسجد الولي أبوالإخلاص الزرقاني لوقوفه عائقا أمام مشروع محور المحمودية، ونقلت رفاته إلى مكان خاص بجانب مسجد أبوالعباس المرسي، ولم تبال المحافظة بالغضب الذي أصاب بعض الطرق الصوفية التي طالبت أن يكون التغيير في تصميم المشروع وليس بنقل الضريح.
علمت “العرب” أن قوات الأمن باتت تشترط على صاحب السرادق في احتفالات الموالد هوية تثبت انتماءه إلى الطرق الصوفية صادرة عن المشيخة العامة (أعلى مؤسسة صوفية)، فضلا عن مطالبته بالإبلاغ عن أي شعائر غريبة أو محاولات لنشر التشيع خلال الاحتفالات.
يسمح الأمن المصري خلال الاحتفال بموالد الصالحين بإقامة الخيام التي تشهد قراءة الأذكار الصوفية ونحر الذبائح عند مساجد آل البيت، وإقامة حلقات يحييها كبار المنشدين، وإقامة مقاه شعبية لتقديم المشروبات والطعام المجاني للوافدين، لكن بعد التطوير من المقرر أن يتم نقلها لشوارع جانبية بجوار المشهد الحسيني وليس أمامه كالمعتاد.
سيطرة على المزارات
أكدت وزارة الأوقاف عدم السماح بأي مخالفات خلال ذكرى عاشوراء التي تحل بعد أيام، والحديث موجه بالأساس إلى الخلايا الشيعية الكامنة التي تحيي اليوم بشعائر خاصة، حزنا على استشهاد الإمام الحسين، ونجحت من قبل في اختراقه بإقامة كربلائية محدودة فجر عاشوراء قبل سنوات، ما أدى إلى غلق الضريح كل عام منذ 2013، بالتزامن مع الذكرى.
أوضح رئيس القطاع الديني في وزارة الأوقاف الدكتور جابر طايع، أن الصلوات ستقام في مسجد الحسين بشكل طبيعي، ولن نسمح بالخروج على النص أو ارتكاب مخالفة أثناء الاحتفال بذكرى عاشوراء.
وكان عبدالغني هندي، عضو مجلس إدارة مسجد الحسين، أكثر وضوحا حينما أدلى بتصريحات صحافية، طالب فيها من أسموهم بـ”الإخوة السلفيين والشيعة” بمراعاة حرمة المسجد وعدم التسبب في أي تجاوزات قد تضر به وبمكانته.
وقال هندي “إننا في أمس الحاجة إلى فهم مقاصد الأديان السماوية، فهي مصدر سعادة لا شقاء، وحيث يكون البناء والتعمير وصنع الحضارة، وصالح العباد والبلاد، تكون مقاصد الأديان وفهمها الصحيح الدقيق”.
يمثل قرار تطوير مسجد الحسين غصة في حلق بعض التيارات السلفية مع وجود أحاديث مستمرة عن استجابة حكومية لاقتراح قدمه أمين سر اللجنة الدينية بالبرلمان المصري عمرو حمروش بغلق المواقع السلفية والمتشددة خلال الانعقاد القادم للمجلس في شهر أكتوبر المقبل لاعتبارات تتعلق بكونها مرجعية للضالعين في العمليات الإرهابية.
ويرى سعيد صادق أستاذ علم الاجتماع السياسي بالجامعة الأميركية في القاهرة، في توجه الحكومة لتطوير مسجد الحسين وطريقتها في التعامل مع الجماعات الدينية أنه يأتي في إطار “التحالفات التكتيكية، ويرتبط بحسابات سياسية داخلية وإقليمية”.
وأشار لـ”العرب” إلى أن الحكومة ستجني العديد من المكاسب من قرارها تطوير مسجد الحسين، منها تحقيق شعبية بين المواطنين ممن يمثل عندهم المسجد مكانة خاصة، ويتأثرون بالخطاب الديني، والرد على الاتهامات التي يروجها معارضو النظام من الإسلاميين وتصويره على أنه نظام ضد الإسلام.
ويلقى تطوير منطقة الحسين تأييدا واسعا بين رواده الذين يفدون مخصوصا إليه من مسافات تتجاوز أحيانا 500 كيلومتر في الاحتفالات بمولده أو الصلاة في رحابه والدعاء بجوار ضريحه في رحلة تحمل أهدافا ترتبط غالبا بالتطهر الديني أو الوفاء بنذور.
وتقطع أم سامح (60 عاما) نحو 40 كيلومترا أسبوعيا من منطقة المنيب جنوب القاهرة إلى الساحة الحسينية ضمن رحلة عائلية تخضع لإعداد مسبق، بتجهيز مأكولات بسيطة لتوزيعها على الفقراء، وتحضير ما يلزم لقضاء يوم في الساحة.
وتقول لـ”العرب”، “كلما جئت إلى هنا تخلصت من أعبائي مهما ثقلت، فعلى عتبة ابن حفيد النبي تتخفف روحي وتطير”.
المكانة التي يحظى بها مسجد الإمام الحسين كملجأ ليست حكرا على السيدة ذات الأصول الصوفية المنتمية إلى الطريقة “البيومية”، وهي إحدى الطرق الرسمية ضمن 70 طريقة أخرى مقننة في مصر، فتمجيد آل البيت والإقبال على مساجدهم عادة أساسية لدى قطاع كبير من المصريين.