تراجع "صناعة الأمل" يزيد أعداد المنتحرين في المجتمع المصري

المجتمع يشارك كل يوم في صناعة منتحر جديد وارتفاع منسوب التعاطف مع المنتحرين في ظل غياب دراسات معمقة لمعرفة الأسباب والقواسم المشتركة بين حالات الانتحار عموما.
السبت 2019/12/07
فرق بين الواقع والمأمول

قرعت حادثة انتحار شاب مصري الأسبوع الماضي، ناقوس الخطر حول إمكانية تصاعد تفكير الشباب في الانتقام من أنفسهم، بسبب حالة التعاطف غير المسبوقة، حيث تحولت مواقع التواصل الاجتماعي إلى منصة للدفاع عن الشاب وتبرير موقفه والتماس الأعذار له.

أوضحت حادثة انتحار الشاب المصري نادر محمد من أعلى برج القاهرة، الأسبوع الماضي، أن نظرة الشباب للانتحار تغيرت. وبعد أن كانت الأغلبية تعتبره أمرا محرما وفعلا مشينا، أصبح المنتحر بطلا وشهيدا للإنسانية، حتى أن البعض أضحى يدافع عمن يفكر في التخلص من حياته، ويصفه بالشجاع الذي استطاع قهر الواقع.

استجاب محمد “ع” أخيرا لنصائح والدته، وقرر أن يتلقى العلاج النفسي عند أحد أطباء القاهرة، بعدما كان يفكر جديا في الانتحار، فقد ظل طوال الأشهر الماضية يخطط للتخلص من حياته، بعدما وجد تعاطفا مجتمعيا مع المنتحرين، لكنه لم يشعر بهذا التعاطف من المحيطين به.

ولا ينكر الشاب صاحب الـ25 عاما، في حديث مع “العرب”  أنه يعيش في مستوى مادي مناسب، يحلم به أغلب الشباب، لكن كل المبررات والأسباب التي تدفع أقرانه إلى الانتحار تتوافر لديه، مثل انتشار الظلم والفساد، في حين لا يجد المتفوق والمحترم فرصة لتحقيق حلمه.

ويقول “أغلب الشباب الذين انتحروا، أو فكروا في إنهاء حياتهم بالانتقام من أنفسهم، لم يجدوا من يستمع إليهم ويحتوي غضبهم، كلهم ضحايا الصمت”.

واقع مرفوض

بلغ الأمر حد اعتقاد بعض الشباب أن المنتحر يستحق تزيين فعله والدفاع عن موقفه واعتباره قدوة ومثلا أعلى، وهو ما يؤسس لظاهرة خطيرة بأن يتحول الانتحار من فعل مرفوض ودليل ضعف وهروب، إلى وثيقة تبرهن على مدى قوة الشخصية، وكل ذلك يقود إلى احتمال تصاعد نسب الانتحار بعدما سيطرت الفكرة على شريحة واسعة من الشباب.

كل شاب يتعاطف مع المنتحر قد يكون فكر في إنهاء حياته كأسهل وسيلة لرفض الأمر الواقع، هكذا يؤكد محمد، لأن له ثلاثة من أصدقائه لديهم الرغبة ذاتها، ويدافعون عن المنتحر مهما كانت دوافعه، ويعتبرونه بريئا، وهم من زرعوا الفكرة في عقله وآمن بها.

صحيح أن محمد يملك دائرة واسعة من الأصدقاء الذين يمكن أن يهونوا عليه آلامه، ويشكو لهم أسباب اكتئابه، لكنه يقول “للأسف، أصبحت كل العلاقات المحيطة بالشباب مصدرا للتشاؤم”.

حتى أن نادر، الذي انتحر من أعلى برج القاهرة، ذهب إلى المكان برفقة أصدقائه المقربين، ولم يكن أحد منهم يعرف أنه يخطط للتخلص من حياته، لكن أحدهم تحدث بعد الواقعة، وقال صديقه إنه كان دائم الصمت، و”كلما سألناه يرد بأنه لا فائدة من الكلام طالما لن يفهمني أحد، وظروف المستمعين تشبه حالتي، وليس هناك أمل في تغيير واقعنا”.

وتؤكد سوسن فايد، أستاذة علم النفس الاجتماعي، لـ”العرب” أنه “كلما تراجعت صناعة الأمل، كانت نسبة التعاطف مع المنتحر أعلى، لأن الفئات العمرية في سن المراهقة، وحتى في سن الـ30، تنخفض لديها مبررات الانتحار إذا وجدت شعاع أمل في البيئة المحيطة، وبالتالي تتراجع معدلات التشاؤم”.

وتزداد أهمية التعاطف مع المنتحر إثر وصول طموح الشباب إلى أدنى مستوى؛ إذ يمكن بسهولة، عند البحث في أحلام الكثير منهم، أن تكون الردود مقتصرة تقريبا على شراء منزل بسيط وامتلاك تكلفة الزواج وإيجاد أي فرصة عمل والتعامل مع الضحية بشكل إنساني.

صكوك الجنة والنار

انتحار الشباب أصبح حالة تستحق التوقف
انتحار الشباب أصبح حالة تستحق التوقف 

لدى شباب مصر معضلة كبرى ترتبط بأن التركيز الأكبر إعلاميا وشعبيا، يكون على النماذج السلبية؛ فمثلا، هناك موهوبون في مجالات كثيرة، لكن أغلب الذين يأخذون حقوقهم في الظهور والشهرة ويحققون نفوذا ماليا، ويضمنون لأنفسهم مستقبلا آمنا، هم شخصيات لا تستحق هذه المكانة.

وأضافت فايد “نعم هناك أسباب كثيرة للانتحار، مثل تجاوز أزمة عاطفية أو شعور بالظلم، لكن تعاطف الشباب مع المنتحر يكون لأسباب مرتبطة بفقدان الأمل، والشعور بأن القادم أسوأ، في حين أنه يمكن تصدير نماذج إيجابية، مثل تجربة رجل أعمال بدأ من الصفر، وواجه صعوبات حياتية حتى وصل إلى مكانة مرموقة، وهنا نقدم قدوة حسنة”.

ورغم تحوّل حادثة الشاب المنتحر من أعلى برج القاهرة إلى قضية رأي عام، فإن ما يلفت الانتباه أن الخطاب الديني كان المسيطر على المشهد، وفتح الباب لجدل واسع بين السلفيين والأزهريين حول اعتبار الشخص الذي يتخلص من حياته بالانتحار، مسلما أم كافرا؟

وكلما انتحر شاب أو فتاة دار النقاش حول نظرة الله إليه أو إليها بعد الموت، ما يزيد، وفق علماء وأطباء النفس، مشاعر اليأس بين الفئات العمرية الصغيرة التي تفكر في التخلص من حياتها للهروب من الواقع الذي لم يكتفِ بإحباطها، بل يصر على تعذيبها بعد موتها.

ويؤكد جمال فرويز، الطبيب المتخصص في العلاج النفسي، لـ”العرب” أن “الشاب الذي يفكر في الانتحار يرى أن إنهاء حياته بداية الراحة لأن ما عند الله أرحم من البيئة التي يعيش فيها، وعندما يتحول الناس ورجال الدين إلى متحدثين باسم الله، ويحددون أصحاب الجنة وأصحاب النار، فإنهم بذلك يدفعون غيرهم إلى التفكير في الرحيل للخلاص من واقع لا يوفر الحد الأدنى من الراحة النفسية، وقمة الكوارث اقتناع الناس بأن العلاج الديني هو الحل لمواجهة الانتحار”.

وكتبت فريدة محمود، وهي طالبة تدرس بكلية الإعلام في جامعة القاهرة، على حسابها الخاص في موقع فيسبوك، تعليقا على الجدل الدائر حول تكفير الشاب المنتحر “هذه النوعية من النقاشات كفيلة بأن (تجعلني) أتخلص من حياتي، أو على الأقل أتعاطف مع كل شاب يقتل نفسه بيده، لأنه عجز عن التأقلم مع بيئة لا ترحم وتنزع منا الأمل بأن الآخرة خير من الدنيا، هؤلاء قتلوا الأمل في نفوسنا أحياء، ويبشروننا بالنار بعد الممات”.

وما يزيد تعاطف بعض الشباب مع المنتحر أن المسؤولين لا يبحثون عن مسببات المشكلة، وينزلون إلى مستوى تفكير هؤلاء الضحايا، ولا يدرسون المبررات التي دفعتهم إلى الاستسلام أمام فكرة الانتحار، ليشعر باقي من يفكرون في تكرار الفعل نفسه بأن احتجاج من سبقوهم مسموع. حتى المجتمع نفسه يُصاب بصدمة لحظية، وسريعا ما يتجاوز هذا الفعل، دون أن ينتفض ويراجع نظرته وتعاملاته مع الشباب.

وتشارك الأسرة والمدرسة والجامعة والمؤسسات الثقافة والدينية والإعلامية، كل يوم في صناعة منتحر جديد، أو تزرع في عقل مجموعة من الشباب فكرة الانتحار، بسبب إصرارها على فرض طريقتها على المتلقي، حتى أصبح هناك من ينتحر بدافع قرارات وتصرفات أسرته، وآخر يقتل نفسه بسبب بيئة التعليم المحبطة، وثالث يقوم بالفعل ذاته لأن الإعلام يمجد الفاشلين ويصنع منهم أبطالا.

يوضح جمال فرويز “إذا كان انتحار الشباب تعبيرا عن الاحتجاج على أمر فشلوا في تغييره وأصبح حالة تستحق التوقف، فإن الأزمة تتفاقم إذا استمر الصمت على الوضع الذي دفع هؤلاء إلى التخلص من حياتهم، وبمرور الوقت يزداد التعاطف مع المنتحر”.

والمتابع للكثير من حالات الانتحار بين الشباب يكتشف أن كلا منهم أنهى حياته بهذه الطريقة المؤلمة لتوصيل رسالة تفيد بأن هناك شيئا ما خطأ، ولا بد من التدخل الفوري لتغييره، حتى لا يتكرر هذا المشهد المأساوي مرة أخرى، وكي يعيش باقي الناس في أمان وسلام.

رسالة لصناع القرار

انتحرت فتاة مصرية قبل أيام، بإلقاء نفسها في نهر النيل، لأن أسرتها ضغطت عليها للزواج من أحد أقاربها، وهو ما فعلته فتيات أخريات من قبل، وكأن جميعهن يردن تغيير عقلية الأسر في تعاملها مع بناتهن عند اختيار شريك الحياة، والكف عن فرض أمر واقع عليهن.

كما يشهد موسم الامتحانات في مصر ارتفاعا في معدل الانتحار بين الشباب كتعبير عن الاحتجاج ضد نظام التعليم القائم، وكأنه رسالة لصناع القرار تنبههم إلى حتمية التغيير.

ويلجأ البعض من الشباب إلى أساليب حديثة في طريقة الانتحار بالتركيز على ما يمكن وصفه بـ”الموت الدرامي”، بأن يتخلصوا من حياتهم في أماكن مشهورة ولها رمزية، حتى يتركوا صدمة، ويجبروا الجميع على البحث في أسباب إقدامهم على هذه الخطوة.

وأصبحت أكثر حوادث انتحار الشباب في مصر تتم بوسائل لا تمنح فرصة الإنقاذ، مثل القفز أمام قطارات مترو الأنفاق، أو من أعلى برج القاهرة، أو إلقاء النفس في نهر النيل، مقابل تراجع التفكير في التخلص من الذات داخل المنزل بالطرق التقليدية، عبر تناول جرعات زائدة من الأدوية القاتلة، أو قطع الشرايين، أو إحراق النفس، أو القفز من أعلى سطح البيت.

وتبين أن الشاب الذي انتحر تحت عجلات مترو الأنفاق بالقاهرة مؤخرا، يعيش في مدينة المنصورة التي تقع شمال القاهرة، وتبعد عنها 111 كيلومترا، وقطع كل هذه المسافة ليتخلص من حياته في مكان حيوي وشهير ويكتظ بالناس، مع أنه كان بإمكانه الانتحار في مقر إقامته.

منتحرون باتوا يتخلصون من حياتهم في أماكن مشهورة، حتى يجبروا الجميع على البحث في أسباب هذه الخطوة

وتبين هذه الحالة عمق التغير في مفاهيم الانتحار عند الشباب، فبعد أن كان التخلص من النفس مرتبطا بأسباب لحظية دون وعي أو إدراك لما يفعله الشخص، أضحى المنتحر يفكر ويخطط ويضع سيناريوهات ما بعد الرحيل، ويدفع الجميع إلى التفتيش عن أسباب تفكيره في هذه الخطوة.

ويرى جمال فرويز أنه “لا يمكن لأي مجتمع أن يخفض معدلات الانتحار بين صفوف الشباب، أو ينمّي التعاطف معهم، طالما غابت ثقافة العلاج النفسي بين أفراده، واستمر التعامل بريبة ونظرة سلبية مع هذا النوع من الطب، فإذا تحدث شاب إلى أقرب الناس إليه وقال له إنه مكتئب ويريد الذهاب إلى معالج نفسي قد ينتشر نبأ إصابته بالجنون، وهو ما يدفع الكثير من الشباب المكتئبين إلى رفض الفكرة من الأساس”.

والأخطر، وفق سوسن فايد، أن يستمر الصمت الرسمي على مسببات انتحار الشباب، والتعامل مع كل حالة على أنها فردية، فلا يمكن انتظار تحول الأمر إلى ظاهرة حتى تلتحم المؤسسات مع الشارع لوضع حلول مناسبة، ولا يعقل أن يقتصر النقاش مع الشباب على لغة الدين لإقناعهم بالتراجع عن التفكير في الانتحار أو بعدم التعاطف مع المنتحر، لأن من آمنوا بأن قتل أنفسهم سوف يحقق لهم السعادة لن يقنعهم خطاب الحلال والحرام.

واتفق الطبيب النفسي، وأستاذة علم الاجتماع، ومعهما الشاب محمد، على أن المواجهة الفعلية لانتحار الشباب وارتفاع منسوب التعاطف مع المنتحرين، تبدأ بإجراء دراسات معمقة لكل حالة على حدة، لمعرفة الأسباب والقواسم المشتركة بين حالات الانتحار عموما للخروج بدروس مستفادة لكل جهة بحيث تكون هناك خارطة طريق أمام الأطراف المختلفة لكيفية التعامل مع العقلية الشبابية، وفق مستجدات العصر.

20