تحدي عودة الدولة التونسية

الشعوب تحتاج إلى لحظات تاريخية تعتقها ولو وقتيا من الخوف من المستقبل وتعطيها شحنة من الأمل، وهذه اللحظة يعيشها الكثير من التونسيين اليوم مع وعيهم بحجم التحديات التي تواجه البلاد.
الأربعاء 2021/08/18
استعادة تدريجية للثقة

للأسبوع الثاني على التوالي تنقل التونسيون بكثافة إلى مراكز التلقيح في تأكيد لاستعادة تدريجية لثقتهم في السلطات الصحية وفي الدولة. حوالي 600 ألف شاب تلقوا التلقيح في يوم واحد.

خطوة أولى على الطريق لا تزال طويلة قبل عودة الدولة إلى دورها الطبيعي بشكل يقطع مع محاولات التفكيك والاختطاف والتوظيف.

أظهرت السنوات العشر الماضية أن غياب الدولة وتهميش دورها كانت لهما انعكاسات خطيرة.

أينما وجهت ناظريك طيلة العشرية الأخيرة رأيت دمارا يهز مصداقية البلاد وهيبتها. في بعض الحالات لم يبق من إرث الدولة تقريبا سوى تقاليدها البيروقراطية المكبّلة لحرية المبادرة والإنتاج.

في ظل حكم المقاولين السياسيين، تحولت الدولة إلى مقاطعات وولاءات تتصارع في ما بينها. انعدام روح المسؤولية وغياب الكفاءة لم يتركا في الكثير من الأحيان مجالا لمواجهة أخطر القضايا والتحديات.

كان آخر تجليات الفشل، فشل الدولة، سوء إدارة الأزمة الصحية ووفاة أكثر من واحد وعشرين ألف شخص عصفت بهم جائحة كورونا.

سواء المواطن العادي أو السلطة القائمة يتحملان اليوم مسؤولية إثبات أن الدولة في تونس ما وجدت لتكون فاشلة

قبلها وفي أوائل العشرية الماضية كان لتخلي الدولة عن مسؤولياتها تأثيره الفادح على الأمن القومي، إذ نمت الحركات السلفية بما فيها التيارات الجهادية والتكفيرية. ساهم التسيب والتواطؤ في تسفير الآلاف من الجهاديين التونسيين إلى سوريا والعراق حيث شاركوا في اقتراف أبشع الأعمال الدموية لداعش وفي تشويه سمعة البلاد في الخارج بحيث أصبح التونسي محل ريبة وشك أينما سافر.

كان لتفتت سلطة الدولة انعكاساته الاقتصادية أيضا. فقد أدى انتشار الحركات الاحتجاجية العشوائية وغياب تطبيق القانون إلى هروب الاستثمارات والشركات النفطية الأجنبية. انهار إنتاج الفوسفات من أكثر من 8 ملايين طن سنة 2010 إلى حوالي 3 ملايين طن السنة الماضية وخرجت تونس من خارطة كبرى البلدان المصدرة لهذه المادة.

وبلا رؤية اقتصادية حقيقية تحولت الحكومات كلّها إلى حكومات تصريف أعمال وتهدئة خواطر إن لم تكن حكومات لترضية الأحباب والأحزاب.

لم يكن هناك خلق للثروة أو خلق لمواطن الشغل بل توسع لحجم الاقتصاد الموازي وخسارة بالنسبة إلى الدولة للكثير من مواردها الجبائية وفقدان الثقة فيها من قبل الفاعلين في مؤسسات الاقتصاد المنظم.

كانت الدولة تفقد كل يوم لبنة من لبناتها أمام أعين مواطنيها الحائرين والقلقين على مستقبل أبنائهم وبلادهم.

في نهاية المطاف عيل صبر المواطن الغلبان، على قول إخوتنا في مصر.

عيل صبره من نظام الحكم وكل مسوّغاته القانونية والدستورية وما تفرّع عنها من طريق مسدود أمام الحكم والإصلاح.

وبالتبعية عيل صبره ممن أنتج نظام الحكم هذا ومن سن دستوره وقوانينه وتسبب في كوارثه الجاثمة على صدور الناس.

بعد مظاهرات 25 يوليو حاولت الأحزاب الحاكمة، ومن بينها حركة النهضة، التنصّل من مسؤوليتها عما أصاب الدولة من وهن على أساس أنها لم تكن تحكم وحدها. ولكنها لم تستطع في نهاية المطاف تجاهل صوت الشارع. وقالت الحركة في الأيام الأخيرة إنها “تلقت رسالة الشعب، وستعلن بكل شجاعة نقدها الذاتي”.

هناك مسائل جوهرية تفرض نفسها على هذه الحركة. فالنهضة تحتاج قبل كل شيء أن تسأل نفسها كيف انقلبت غالبية الرأي العام ضدها وبلغ الأمر بالناس إلى الإحساس بالارتياح لتحييدها عن السلطة. تطور تيارات الرأي تجاهها فاجأ المراقبين في الداخل والخارج وحتى المتعاطفين مع النهضة أنفسهم. لا يمكن أن يكون كل الناس على خطأ وقادتها على صواب.

تحتاج الحركة أن تستوعب كيف كان الكثير من المواطنين مستعدين منذ عشرة أعوام خلت للالتفاف حول مرشحيها للانتخابات على أساس أنهم “يخافون الله”، ثم أصبحوا بعد سنوات متعاطفين مع كل من يعادي الحركة.

لم تنجح سرديات النهضة رغم محاولاتها في النأي بالحركة عن السياسات الفاشلة للحكومات المتلاحقة وممارساتها أو في الأداء المتعثر للبرلمان ومواجهته لرئاسة الجمهورية.

وغابت المصلحة العامة إذ طغت حسابات المنافع والمحاصصة والأجندات الحزبية والرغبة في السيطرة على كل مفاصل الدولة.

استرجع قيس سعيد المبادرة بعد 25 يوليو وأصبح الطريق سالكا أمامه كي يحكم دون أن تصده الحكومة أو تقف في وجهه الموانع الدستورية أو المشاكسات البرلمانية وخاصة الفيتو المرفوع في وجهه من حركة النهضة.

من الأكيد أنه ستكون هناك مآخذ على قرارات الرئيس سعيد ومبادراته القادمة. لكن أغلبية الناس مرتاحون في الوقت الحالي لكون رئيس الدولة يستطيع أن يقود وأن يقرر وأن يحكم.

بناء ثقافة تستظل بالدولة العادلة
بناء ثقافة تستظل بالدولة العادلة

هم يتوقعون أن تكون هناك مستقبلا مؤسسة برلمانية تراقب السلطة التنفيذية لكن لن يقبلوا ببرلمان يحاول إعاقة الدولة أو ترذيلها.

الناس مرتاحون أيضا لكون القضاء يستطيع أن يفتح قضايا التمويلات المشبوهة في الانتخابات وشبهات الفساد المالي في سائر القطاعات. ويأملون أن يبقى القضاء عادلا مستقلا في قراراته.

ولكن تنتابهم الحيرة أيضا عندما تبلغهم أنباء عن شخصيات من أقطاب السلطة القضائية موضوعين رهن الإقامة الجبرية. لا يُطمئنهم أن يتبادل هؤلاء على رؤوس الملأ أخطر التهم مثل التستر على الإرهاب والفساد المالي أو أن يتورط قضاة في قضايا تهريب.

وقد تكون الشبهات التي تخيّم على القضاء والشكوك التي تخيم على طريقة معالجته لعدد من كبرى القضايا التي  شغلت الرأي العام من أكبر التهديدات التي تهدد بتقويض سلطة الدولة إن لم يكن أكبرها.

تحتاج الشعوب إلى لحظات تاريخية تعتقها ولو وقتيا من الخوف من المستقبل وتعطيها شحنة من الأمل. وهذه اللحظة يعيشها الكثير من التونسيين اليوم مع وعيهم بحجم التحديات الرهيبة التي تواجه البلاد على كافة الجبهات.

ولكن السؤال الذي يبقى في الوقت الحاضر بلا جواب هو هل أن الشعوب في ترحيبها بالفارس المنقذ مستعدة لتحمّل جانبها من المسؤولية في مسيرة الألف خطوة نحو إنقاذ الدولة المنهكة أم هي سوف تكتفي بالعضوية الدائمة في جمهورية فيسبوك والفرجة على بلاتوهات التلفزيون.

صحيح أن هناك عودة للإنتاج في مناجم الفوسفات في الجنوب الغربي للبلاد. وهناك هدنة غير معلنة للاحتجاجات والإضرابات على الأقل إلى حد الآن.

حركة النهضة تحتاج أن تستوعب كيف كان الكثير من المواطنين مستعدين للالتفاف حول مرشحيها للانتخابات، ثم أصبحوا متعاطفين مع كل من يعادي الحركة

ولكنك عندما ترى الناس في اكتظاظ لا يتوقف في الشواطئ والمقاهي في إنكار لكون كورونا مازالت تحوم في كل مكان، فإنك تتساءل عن مدى وعي الجمهور بأن سلوكياته جزء من المشاكل القائمة وأن في انضباطه معاضدة للدولة وهي تحاول أن ترفع رأسها من جديد من أجل رفع التحديات المطروحة.

حتى خارج الأزمة الصحية هناك اقتصاد يتهدده الإفلاس ومجتمع  يواجه شبح الفقر والبطالة. وهناك مفاوضات مع صندوق النقد الدولي قد تفرض جرعات من الألم على الجميع.

لن تستطيع الدولة الانتظار طويلا لتشكيل حكومة متكاملة يسيّر حقائبها مسؤولون أكفاء قادرون على تحمل مسؤولياتهم كحماة للدولة. ولن تستطيع أن تنتظر طويلا إرساء نظام سياسي لا تتسابق أركانه نحو فشل الدولة.

لحد الآن وفي غياب الحكومات الكفؤة والمستقرة لعبت الإدارة دور الركيزة الثابتة في انتظار عودة الدولة. كانت هي الدولة العميقة الصامدة في غياب دولة المؤسسات التي تقود قاطرة البلاد.

ورغم التشكّيات المفهومة من تردي أدائها ورغم غياب الرؤية السياسية التي تنير سبيلها، وفّرت الإدارة الخدمات الأساسية المطلوبة بلا انقطاع.

فلا شبكات الماء أو الكهرباء توقفت عن العمل، ولا قوات الجيش والشرطة أظهرت يوما ترددا في حفظ النظام والذود عن سيادة الوطن أو تشكيكا في من هو صاحب القرار. وذلك يحسب لها في خضم الاضطرابات والتوترات القائمة.

يدعم المسؤولون الواعون بمسؤولياتهم أسس الدولة مثلما يخربها مسؤولو الصدفة. ولكن الدولة يبنيها أيضا احترام المواطنين لنواميسها. ومهما فعلت الحكومات القادمة ومهما استنبطت من حلول فإنها لن تقفز على الواقع: مجتمع بدأ يتعود على نسق حياة اضمحلت فيه تدريجيا قيمة العمل وغاب فيه مفهوم الالتزام بالقانون والمصلحة العامة في ظل الدولة المغيبة أو العاجزة.

أطالت الاضطرابات السياسية فترة الاستراحة وحان الوقت لإنهائها باعتبار أن العمل هو الأصل والتوقف عنه استثناء. حان الوقت لبناء ثقافة تستظل بالدولة العادلة في فرضها لسلطة القانون ومساواة المواطنين في الحقوق والواجبات.

فترات التعثر في التسيير وسيطرة مظاهر الاحتجاج والتسيب وتغييب الكفاءات عن مراكز القرار جعلت الناس تطبّع مع سوء الأداء وتهميش سلطة الدولة.

سواء المواطن العادي أو السلطة القائمة يتحملان اليوم مسؤولية إثبات أن الدولة في تونس ما وجدت لتكون فاشلة.

9