المنافسة الأجنبية لا تخدم مصالح ليبيا

اليوم تجد ليبيا نفسها في قلب التنافس المحتدم على النفوذ بين القوى الدولية والإقليمية دون أن تكون لها ما تجنيه من ذلك.
السبت 2025/05/31
ليبيا أكبر منكم جميعا

أكد لقاء المشير خليفة حفتر بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الكرملين يوم 10 مايو مجددا عمق العلاقة الوثيقة بين الرجل الليبي القوي وموسكو.

كانت الزيارة التي تمت خلال إحياء روسيا للذكرى الثمانين لانتصار البلاد على ألمانيا النازية مناسبة لقائد الجيش الوطني الليبي كي يلتقي بعدد من كبار المسؤولين العسكريين الروس، بمن فيهم وزير الدفاع أندريه بيلوسوف.

وعلاقات حفتر بروسيا كانت دوما مصدر انشغال في الولايات المتحدة وأوروبا. وقد دفع ذلك المسؤولين الأوروبيين والأميركيين للاهتمام مجددا بليبيا.

في هذا الإطار كثفت الإدارة الأميركية اتصالاتها أكثر من قبل مع المسؤولين الليبيين من المنطقتين الغربية والشرقية للبلاد. ومن بينهم وكيل وزارة الدفاع في حكومة طرابلس عبدالسلام الزوبي، الذي كان أول وزير مسؤول كبير في وزارة الدفاع الليبية يلتقي، منذ سنوات، بمسؤولين في واشنطن عندما زار البنتاغون في أوائل مايو.

◄ رغم الجهود الخارجية لمساعدة ليبيا على التوصل إلى تسوية، فإن تداخل المصالح بين سائر المتدخلين الأجانب لا يزال يعيق أي تقدم حقيقي نحو التسوية المنشودة

وبشكل مواز أجرى صدّام حفتر (ابن خليفة حفتر وخليفته المفترض) محادثات مع كبار المسؤولين في وزارة الخارجية الأميركية في نهاية أبريل. وفي نفس الفترة تقريبا حضر بلقاسم، أحد أبناء حفتر، منتدى لرجال الأعمال بواشنطن بصفته ضيف شرف.

كان واضحا أن واشنطن تريد إعطاء الانطباع أنها تعامل كلا من طرابلس وبنغازي على قدم المساواة على صعيد مبادراتها الدبلوماسية والعسكرية، من ذلك أن بارجة الأسطول السادس الأميركي، يو إس إس ماونت ويتني، رست في ميناءي طرابلس وبنغازي خلال أبريل. وشهد شهر فبراير زيارة جنرالين من القيادة الأميركية في أفريقيا (أفريكوم) لليبيا، حيث التقيا بقادة شرق ليبيا وغربها، بمن فيهم خليفة حفتر وصدام حفتر، إضافة إلى رئيس وزراء حكومة الوحدة الوطنية عبدالحميد الدبيبة.

وتقول وزارة الخارجية الأميركية إن من أولويات واشنطن الإستراتيجية الحفاظ على أواصر الحوار مع المسؤولين في شرق ليبيا وغربها.

ووفقا للجنرال جون دبليو برينان، نائب قائد أفريكوم، فإن الدافع الأميركي الرئيسي وراء هذا التواصل هو السعي إلى “إلحاق الهزيمة بالفاعلين الأشرار الذين يهددون شمال أفريقيا والمصالح الأمنية الأميركية.”

ومن الواضح أن القائد العسكري الأميركي لم يكن يعني بحديثه عن “الفاعلين الأشرار” طرفا آخر غير روسيا.

عبر برينان بكلامه عن مخاوف حلف شمال الأطلسي (الناتو) المتزايدة من الوضع في ليبيا، كما أبرزها تقرير صادر عن الحلف في مايو 2024 حول “إستراتيجية الجوار الجنوبي” وجاء فيه أن ليبيا تتطلب اهتماما خاصا في منطقة شمال أفريقيا.

ومن بين أهداف هذه الإستراتيجية محاولة إبعاد حفتر عن موسكو بعد أن أثارت علاقته بروسيا واجتماعاته المنتظمة في بنغازي مع نائب وزير الدفاع الروسي يونس بك يفكوروف قلقا بالغا لدى الغرب.

لم تأل الولايات المتحدة جهدا في سعيها لاستمالة حفتر إلى حد أنها نشرت قاذفتين من طراز بي – 52 ستراتوفورتريس في نطاق مناورات جوية “تكتيكية” بالقرب من سرت. والتقى الجنرال مايكل لانغلي، قائد أفريكوم، في أغسطس 2024 بحفتر في بنغازي.

لكن لم ينتج عن تلك المساعي ما يدل على أن حفتر قد قلل اعتماده على موسكو.

◄ علاقات حفتر بروسيا كانت دوما مصدر انشغال في الولايات المتحدة وأوروبا. وقد دفع ذلك المسؤولين الأوروبيين والأميركيين للاهتمام مجددا بليبيا

وبالرغم من ذلك لا يبدو أن الولايات المتحدة مستعدة للتخلي عن مغازلتها لقائد الجيش الوطني الليبي، لاسيما وأن روسيا وسّعت وجودها العسكري في ليبيا منذ إعادة نشر قواتها ومعداتها من سوريا في ديسمبر 2024، في نطاق سعيها لتحويل الأراضي الليبية إلى منصة انطلاق للعمليات الروسية نحو بقية القارة الأفريقية.

يرى حلف شمال الأطلسي أن وجود ما يقدر بنحو 2000 إلى 2500 جندي روسي ضمن ما تسميه موسكو “فيلق أفريقيا” في قواعد عسكرية على التراب الليبي يشكل تهديدا مباشرا للأمن الأوروبي. ويقول خبراء الناتو إن الوجود العسكري الروسي مصحوب بحملات تضليل إعلامية معادية للغرب بغرض زيادة تشويه صورة الحلف في شمال أفريقيا.

ويذكر في هذا الصدد أن الناتو بقي يواجه الكثير من الانتقادات نتيجة حالة الفوضى وعدم الاستقرار التي أعقبت انسحابه من ليبيا دون أية ترتيبات مسبقة بعد دعمه لانتفاضة 2011 التي أطاحت بالزعيم الليبي معمر القذافي.

ويخشى المخططون الإستراتيجيون الغربيون الآن من التهديد الروسي في المتوسط على ضوء التوسع البحري لموسكو في ليبيا، وتوجسهم من احتمال استخدام الهجرة انطلاقا من السواحل الليبية إلى أوروبا كورقة ضغط سياسية وأمنية.

وتتركز معظم مخاوفهم اليوم على الانتشار الروسي جنوب الصحراء بشكل متزامن مع تراجع التأثير الغربي في تلك المنطقة. فعلى مدار السنوات الثلاث الماضية، اضطرت فرنسا إلى الانسحاب من مالي والنيجر وبوركينا فاسو والسنغال وتشاد، واضطرت الولايات المتحدة من ناحيتها إلى التخلي عن قاعدتها لمكافحة الإرهاب في النيجر.

اليوم تجد ليبيا نفسها في قلب التنافس المحتدم على النفوذ بين القوى الدولية والإقليمية دون أن تكون لها ما تجنيه من ذلك. وقلما يسعى أي طرف خارجي للاستماع لوجهة نظر الليبيين تجاه ما يحاك حولهم.

هذا التنافس يجر الليبيين في الواقع إلى تجاذبات تزيد في ضبابية المشهد السياسي داخل بلادهم وتعمق مطباته. فالقواعد العسكرية الروسية والأجنبية الأخرى، بما فيها التركية، تزعزع شعور الليبيين بسيادة دولتهم على ترابها. ويفاقم الوجود العسكري الأجنبي الانقسامات بين الفرقاء من خلال ترسيخه منطق الولاءات للأطراف الأجنبية.

وقد أظهرت بعض الأحداث الأخيرة إلى أي حد يمكن للتنافس بين القوى الأجنبية أن يؤجج الصراعات الداخلية ويرسخ الانطباع بأن القرار النهائي للسلم والحرب في ليبيا يعود إلى الأطراف الخارجية المتدخلة في شؤون البلاد أكثر من السلطات الليبية المتنازعة.

وجد الليبيون أنفسهم خلال الأسابيع الأخيرة في موقع المتفرج عندما تناقلت وسائل الإعلام تقارير تتحدث عن تخطيط الولايات المتحدة لترحيل أعداد غير محددة من المهاجرين غير الشرعيين من ذوي السوابق الإجرامية إلى ليبيا. أثار ذلك لغطا كبيرا بين الليبيين وجدلا حادا عبر منصات التواصل الاجتماعي في البلاد، حيث تساءل العديد من المواطنين عما إذا كانت واشنطن بصدد استغلال المشهد السياسي الليبي المتشظي من أجل فرض أمر واقع من شأنه فقط أن يعمق حالة عدم الاستقرار التي تعاني منها البلاد أصلا.

وفي 23 مايو ربط وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو في تصريحات له بواشنطن بين التسريبات حول عمليات الترحيل وما نشب من اضطرابات في العاصمة الليبية، قائلا إن هذه التسريبات، وتدخل القضاء الأميركي في محاولات الترحيل، شجعت الفصائل المتمردة وأثارت أسوأ قتال شوارع في طرابلس خلال الثلاث سنوات الأخيرة.

وأثارت تصريحاته شكوكا جدية حول إستراتيجيات واشنطن في ليبيا، حيث بدا وكأن واشنطن تمنح الأولوية لتحقيق بعض الأجندات قصيرة المدى بتنسيق مع أطراف غير معلن عنها في ليبيا حتى إن نتجت عن ذلك عواقب سلبية بالنسبة إلى البلاد.

◄ كانت الزيارة التي تمت خلال إحياء روسيا للذكرى الثمانين لانتصار البلاد على ألمانيا النازية مناسبة لقائد الجيش الوطني الليبي كي يلتقي بعدد من كبار المسؤولين العسكريين الروس

وقبل ذلك توترت الأجواء في العديد من المناطق في ليبيا بسبب انتشار فيديو صادم يُظهر النائب المختطف إبراهيم الدرسي مغلولا، في حادثة فسّرها الكثير من الليبيين بأنها محاولة من خصوم حفتر لعرقلة التقارب الأميركي مع هذا الرجل القوي في شرق ليبيا لأن الدرسي كان اختفى في بنغازي.

ومع انزلاق طرابلس نحو العنف وعدم الاستقرار وتزايد التجاذبات في أواخر مايو حول مستقبل حكومة الدبيبة، حاولت موسكو وأنقرة تصوير تدخّلهما في ليبيا على أنه يهدف إلى تحقيق الاستقرار ومنع تصاعد الصراع.

ولم يعد كلام موسكو وأنقرة وواشنطن وغيرها من القوى الأجنبية يخدع معظم الليبيين، إذ أن هؤلاء مقتنعون اليوم بأن القوى الأجنبية تسعى في المقام الأول إلى الاستيلاء على نفط بلادهم وغازها وثرواتها الطبيعية الأخرى، ويرون أن استقرار ليبيا أمر ثانوي بالنسبة إليها.

ويبقى الوجود العسكري وسيلة من وسائل التنافس على المصالح بين الأطراف الخارجية، ورغم الخطب والبيانات والوعود لا يوجد إلى حد الآن أي نقاش جدي أو روزنامة محددة حول انسحاب القوات النظامية الأجنبية ووكلائها من ليبيا.

ورغم ما بذلته الأمم المتحدة وبعض الأطراف ذات النوايا الحسنة من جهود لمساعدة ليبيا على التوصل إلى تسوية تحقق استقرار البلاد، فإن تداخل المصالح بين سائر المتدخلين الأجانب لا يزال يعيق أي تقدم حقيقي نحو التسوية المنشودة. بل إن النفوذ الأجنبي يدفع الفصائل الليبية إلى الاعتماد على الدعم الخارجي من أجل الحفاظ على سلطتها السياسية في بيئة كثيرا ما تكون موبوءة بالجشع والفساد وانتهاكات حقوق الإنسان.

في نهاية المطاف يبدو تحقيق أي تقدم نحو التوصل إلى حل سياسي من أجل توحيد البلاد ومؤسساتها ووضعها على سكة الانتخابات هدفا صعب المنال. ومن غير المحتمل أن يتغير الوضع ما لم يقتنع القادة الليبيون قبل غيرهم بضرورة إعطاء الأولوية للمصلحة الوطنية وعدم الانسياق وراء التأثيرات الخارجية لتحقيق أغراضهم. ويخشى الكثيرون أن يكون هذا الهدف غير قابل للتحقيق مع الجيل الحالي من الساسة في ليبيا.

 

اقرأ أيضا:

        • رسائل مضمونة الوصول من عرض "الكرامة" العسكري

7