بيروت تستعيد "لاعب نردها الغائب" بعد طول انقطاع

التشكيلي اللبناني بسام قهوجي يركب التجريد في معرض استثنائي في زمن حدوثه وعبثي في ملامحه.
الجمعة 2020/11/13
ندوب الجراح لا تقبل الاختفاء

عاد الفنان التشكيلي اللبناني ومصمم الغرافيكس بسام قهوجي، والذي يملك دارا ناشطة للنشر، بعد انقطاع مطوّل عن الأجواء التشكيلية اللبنانية ليعرض مجددا لوحاته التجريدية وأعماله الورقية والخشبية في صالة “أجيال”، تحت عنوان مربك “أن يكون قد شُيّد البنيان” حمل من الرمزية أقصى معانيها.

بيروت – بعد انقطاع دام ربع قرن عن الساحة الفنية إثر موقف صارم أراده الفنان التشكيلي اللبناني ومصمم الغرافيكس بسام قهوجي انسحابا تكتيكيا من سوق العرض الفني الذي سيطر عليه الفن “السردي” بصوره العديدة والبعيدة عن مبدأ الفن، للفن، وخارج اختبار التجربة الفنية الخالصة والمتنصلة من كل هدف خارج ذاتها، عاد قهوجي إلى العرض ليؤكّد من جديد أن، بالنسبة له، أن العملية الفنية البحتة بكل ما تعبر من مراحل تحوّل وتبدّل هي أهم من الشكل النهائي للعمل بعد أن يتخلى عنه الفنان.

وأبرز ما حضر في المعرض المقام حاليا بقاعة “أجيال” البيروتية، هو “كيان” الأزرق الداكن الذي تشكل في هيئات تتحرّك ضمن مسارات معدومة الأهداف ويحكمها الارتجال الذي استدعاه الفنان اللبناني لكي يحلّ في ريشته، فيكون مفتوحا على كل الاحتمالات العارية من المعاني السردية المرتبطة والمحكومة بقوانين الزمان والمكان.

كما حضرت في لوحاته “هامة” الأسود المفتوح على تدرجاته الكئيبة التي لوّحها لون الخشب والخُضرة الفاقدة لذاكرة النُضرة، كذلك حضر البنيان والحطام، والمربعات والمستطيلات، والفراغ الصارخ في قلب الأشكال ومن حولها، والذي خطّ لا جدوى ما يمكن أن تقوله اللوحة من قصة أو فكرة أمام أهمية التجربة الفنية الأدائية و”نزاهة” الأشكال في بداياتها المُمكنة ونهاياتها المغلقة على العدم كمفتاح صدأ يستحيل أن يفتح بابا غير هذا الذي يفضي إليه.

عودة مربكة

أعمال فنية صرفة لا تكترث بالسرديات
أعمال فنية صرفة لا تكترث بالسرديات

عاد الفنان بسّام قهوجي اليوم إلى العرض بعد أن وجد الوقت مناسبا للعودة. واحتار كل من تمعّن بلوحاته وبقرار عودته إن كان يفرح بعودة فنان لم يتوقف عن الرسم بل فقط عن العرض، أو يحزن لأن الفنان اختار لعودته هذا الزمن الذي ارتآه مناسبا لغياب السرد فيه واضمحلال قيمة الزمن وتراتبية لحظاته. زمن مُعلّق على تفسخات وجودية ووطنية هائلة بهتت فيه الابتسامات وانحل فيها دفئ الوصال ما بين البشر.

أن تدخل إلى صالة “أجيال” البيروتية في يوم ماطر بعد انقطاع طويل سببه الأزمات المتنوعة والمتتالية التي عصفت بلبنان وصولا إلى وفاة فراس أحد العاملين بالصالة، الذين اعتدنا وجوههم اللطيفة ولياقة ودفئ استقبالهم لنا متأثرا بجراحه التي أصيب بها من جراء انفجار 4 أغسطس، يعني أن تتيقّن مرة أخرى صعوبة أن ترى في الأعمال الفنية المعاصرة والمعروضة أيا كان نوعها، إلاّ ما جلبته أو أسقطته عليها من مشاعر وأفكار.

لذلك استقبلتنا أعمال الفنان لحظة دخولنا بحالات تنضح بلا جدوى الأشياء والحوادث، مشيرة إلى هشاشة الأشكال والألوان غير الناطقة إلاّ بحالتها المُباشرة الممنوعة من التأويل.

وإذا كان لا بد من إعطاء لقب لهذا الفنان الذي اختار الزمن المناسب للعرض، حيث لا زوار كثر ولا صالات مقيمة لمعارض جديدة إلاّ صالة “أجيال” في عز ما كان يُفترض أن يكون “موسم المعارض الفنية”، سيكون لقب “لاعب النرد المستطيل”، حيث يشغل “اللعب” في بناء الأشكال أو تدميرها في كافة الأعمال حيزا أساسيا، وحيث “اللاعب/ الفنان” هو السائر على “لا هدى” حجر النرد الذي اكتسب في معظم لوحاته أشكالا مستطيلة.

وأضاف صوت انهمار المطر الداخل إلى الصالة الخالية من الزوار في هذا الوقت من النهار ووجود صورة فوتوغرافية صغيرة لفراس، على الطاولة الصغيرة القريبة من النافذة حيث كان يجلس عادة، ظهر فيها واقفا أمام إحدى اللوحات هي على الأرجح للفنان اللبناني أسامة بعلبكي، جعلت من الصالة بأسرها تجهيزا فنيا/ فراغيا يعمّق من فقدان المعنى بشكل عام، ومعنى أي عرض فني راهن بشكل خاص، ويعمّق كذلك الأمر من فكرة موت السير الشخصية والعامة على السواء.

فراغ وجودي

كيان أزرق داكن يتشكل ضمن مسارات معدومة الأهداف
كيان أزرق داكن يتشكل ضمن مسارات معدومة الأهداف

تضمّن المنشور المرافق لمعرض بسام قهوجي نصا مؤثرا جدا باللغة الفرنسية لرالف حداد ألقى بظله الرطب، “الضوء” وليس العتمة على كل أجواء المعرض بتقطعاته الداكنة الألوان، ومع استحالة ذكر النص بكامله هنا، نكتفي بذكر مقتطفات نثرية بنوعها وشعرية/ فلسفية/ بفحواها مُستقاة من حوار دائر ما بين رجل وامرأة عمّق من شعور الفراغ الوجودي واستحالة كل حالة حب تحت وطأته.

ويقول النص “كم الساعة؟ سألت؟/ لا يهم، أجبتها. وإذا كان وقتك مهما فيمكننا أن نستخدم وقتي أنا/ ولكن في أي نهار نحن؟/ البارحة، ربما/ هل أتيت باكرا أم متأخرة؟../ عندما يتوقّف الزمن علينا أن نُغرق السمكة../ ربما سيكون لنا الوقت الكافي لأن نكون بشرا عندما نكون منتصرين!.. تجوّلت نظراتها حتى حطت على لوحة فنية كانت معلقة على الجدار.. قالت: الفن هو الشفرة التي تقتطع من الأبدية الوهلة المُدهشة لتستحوذ عليها../ الوقت يا سيدتي لا يهمنا، لم تكن ندوب الجراح يوما قابلة للاختفاء. هي بوسعها فقط أن تكتسب لونا برونزيا تحت أشعة الشمس. عندها استجمعت ذاتها لتذهب نحو موت آخر”.

أخبرنا صالح بركات صاحب صالة “أجيال” أنه على مدى سنوات كان يسأل الفنان “هل تريد أن تعرض أعمالك؟”، وكان يجيبه بالرفض، حتى تحوّل هذا السؤال مع مرور السنوات إلى محطة كلام ومن ثم إلى طرفة كانت تدعوهما إلى الابتسام.

مؤخرا، طرح صالح بركات سؤاله التقليدي هذا على بسام قهوجي ليجيبه هذه المرة “أجل. أريد أن أعرض اليوم أعمالي”، فكان معرضا استثنائيا في زمن حدوثه وعبثيا في ملامحه وفنيا بحتا لا يكترث بالسرديات ويؤمن بأن “ندوب الجراح لم تكن يوما قابلة للاختفاء. وأن بوسعها فقط أن تكتسب لونا برونزيا تحت أشعة الشمس”.

اللوحات المشرفة على العبث حولت صالة "أجيال" إلى عمل فني فراغي عمّق فكرة موت السير الشخصية والعامة على السواء
اللوحات المشرفة على العبث حولت صالة "أجيال" إلى عمل فني فراغي عمّق فكرة موت السير الشخصية والعامة على السواء
أسود مفتوح على تدرجاته الكئيبة
أسود مفتوح على تدرجاته الكئيبة

 

17