بيروت الصور المتحرّكة: الفن كبديل عن الوجود

المهرجان يعلن ولادة جديدة لفن "المانغا" الياباني بصيغة لبنانية.
الأربعاء 2021/10/20
احتفاء عربي بالفن التاسع

أطلق المركز الفرنسي النسخة الأولى من مهرجان بيروت للشرائط المصوّرة بعد تأجيل دام سنتين بسبب تفشي وباء كوفيد – 19 وتلاحق الأزمات على أنواعها. ومن جملة ما ضمّ المهرجان من نشاطات معرض ضخم استضافته دار النمر للثقافة والفنون حمل عنوان “الجيل الجديد: الشريط المصوّر العربي اليوم”.

نظّم المركز الفرنسي في الفترة الممتدة بين السادس والعاشر من أكتوبر الجاري مهرجان الشرائط المصوّرة للسنة الأولى، وذلك بالتعاون مع ليون بي.دي والأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة، ومبادرة معتز ورضا الصواف للشرائط المصوّرة العربية في الجامعة الأميركية في بيروت.

وأقيمت النشاطات في أكثر من عشرين موقعا ومؤسسة ثقافية، نذكر منها متحف سرسق والجامعة الأميركية ودار النمر الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة، وتضمن أكثر من ثلاثين موعدا ثقافيا تنوّعت ما بين المعارض والعروض الفنية والاجتماعات والحفلات الموسيقية والنقاشات وتوقيعات الكتب.

"مدينة مجاورة للقمر" صدر بعد انتظار دام أكثر من ثماني سنوات بسبب الأوضاع اللبنانية المتأزمة

مرارة وتهكّم

من جملة ما ضمّ هذا المهرجان معرض أقيم في دار النمر للثقافة والفنون حمل عنوان “الجيل الجديد: الشريط المصوّر العربي اليوم”. وانطلقت فعاليات هذا الحدث الفني الكبير بعد فترة قصيرة من إطلاق مهرجان الأفلام الوثائقية الفنية، وبعد سلسلة من المعارض الفنية التي تشتدّ وتيرتها، وللمفارقة، مع اشتداد وتيرة الأزمة اللبنانية.

أزمة ساهمت من حيث لا ندري في ولادة عدة مؤلفات فنية من بينها مُؤلف للفنان وكاتب الكوميكس جورج أ. مهيّا “مدينة مجاورة للأرض” بجزئه الثاني الذي طال انتظاره.

ولم يعد غريبا على أحد أن بيروت شكلت ولا تزال صيغة غرائبية من الوجود على حافة الموت بكل أشكاله. وكانت بيروت يوما منارة للشرق بداية من منتصف الخمسينات من القرن الماضي، وصولا إلى تاريخ اندلاع الحرب اللبنانية سنة 1975 التي انتهت شكليا في التسعينات. وحينها شهدت صعودا “صاروخيا” لزخم فني لبناني أشار إلى استمرار تكوّنه تحت الركام حتى اشتدّ عوده، مُطلقا أغصانه إلى فضاء العالم.

ولكن الحال لم يدم، وعادت رياح الأكسدة السياسية الداخلية والعالمية لتلفح من جديد هياكل لبنان الغضّة منذ خمسة عشر عاما وإلى اليوم. يوم لم يسبق للبنان المعاصر أن شهد مثله لناحية عمق وتشعّب الأزمات. وبالرغم من ذلك كله، ودون أية مبالغة، عادت بيروت في وسط هذا كله محطة لأنظار المحيط العربي والعالمي، وذلك أمام اشتعال حياة فنية صاخبة ليست أخفّ حضورا من جبروت فارس يسير قدما على صوت صهيل جواده المجروح.

واحتضن مهرجان بيروت للرسوم المصوّرة تطوّر فن الكوميكس في لبنان والعالم العربي منذ منتصف الثمانينات من القرن الماضي مع تركيز على السنوات العشرين الأخيرة التي احتدم فيها الصراع على أنواعه في المنطقة العربية.

وضمّ المعرض الذي انتهت فعالياته في الثامن عشر من أكتوبر الجاري بدار النمر مجوعة كبيرة من الأعمال لنحو خمسين فنانا لبنانيا وعربيا تم انتقاء أعمالهم برويّة، وجاءت في أكثريتها الساحقة متناولة لقضايا وطنية تبلورت في عالمنا الشرق أوسطي هذا حتى باتت قضايا ذات أبعاد وجودية وفلسفية تخطّت حدود مؤثراتها المباشرة بأشواط وعمّقت من بنيان هوية جديدة، فيها كمّ من المرارة والتهكّم والسخرية حتى الهزل المتحلّل من كل رباط، وفيها أيضا همّة التمسّك بخاصية الحلم الجدّ إنسانية.

ولا ننسى أبدا المنحى الطفولي للعديد من تلك الأعمال ولا ولادة فن “المانغا” الياباني بالصيغة اللبنانية. فن قد لا يستسيغه الكثيرون لكنه جزء لا يتجزأ من عالم الكوميكس الغني جدا بكافة التيارات الفنية والفكرية.

واقعية سحرية

كوميكس أقرب إلى المانغا الياباني
كوميكس أقرب إلى المانغا الياباني

في المعرض ظهرت جليا النزعات الفنية/ الوجودية وأوضح ما ظهر في فن الكوميكس اللبناني والعربي المعاصر. وأتاح لنا هذا المهرجان، الذي فتحت أبوابه الكثيرة للجميع ومن دون أي مقابل مادي، رؤية الصورة الكبيرة لهذا الحراك الفني. وسمح لنا أيضا، كأفراد، أن نتوقّف ونتعمّق في أكثر من نوع من هذا الفن حسب مزاجنا وذائقتنا الفنية.

وكما كل حدث فني ذي قيمة عالية دارت في فلك المهرجان سلسة من الندوات حول إشكاليات وصعوبات الإنتاج والنشر والطباعة، والرقابة وصلتها بالمحظورات الحاضرة في عدد كبير من تلك الأعمال. واستمرّ هذا النشاط الفني في بيروت حتى العاشر من أكتوبر الجاري ثم انتقل إلى مدينة طرابلس وصيدا وزحلة ودير القمر.

وذكر البيان الصحافي الخاص به أن لبنان كان على موعد مع “أربعين حدثا ثقافيا في أربعين فضاء ثقافيا في لبنان، بينها معارض وعروض فنية واجتماعات وحفلات موسيقية وتصويرية حيّة ونقاشات”.

ومن هناك جمعت المعارض ستين فنانا وإحدى عشر مجموعة فنية من اليمن وليبيا والمغرب والجزائر وتونس ومصر وسوريا ولبنان والعراق تحت سقف واحد، ممّن لعبوا دورا مهما في صعود وانتشار وتطوّر فن الشرائط المصوّرة.

المهرجان استعرض تطوّر فن الكوميكس في لبنان والعالم العربي منذ ثمانينات القرن الماضي وإلى اليوم

كما دارت في فلك هذا المهرجان حفلات توقيع كتب الشرائط المصوّرة، لعلّ أبرزها حفل توقيع الجزء الثاني من كتاب الشريط المصوّر “مدينة مجاورة للقمر” للفنان جورج أ. مهيّا، والذي صدر عن “دار قنبز” بعد انتظار دام أكثر من ثماني سنوات تخلّلتها عراقيل كثيرة أغلبها بسبب الأوضاع اللبنانية المتأزمة.

وفي التاسع من أكتوبر جرى افتتاح معرض للفنان ضمّ أعماله الأصلية في صالة “تانيت” مرفوقا بتوقيع الكتاب. وفي جوّ من الغرائبية الكئيبة التي استنفد فيها مهيّا لونيا كل طاقة اللونين الأسود والأبيض وما ينحدر منهما وإليهما من ظلال وشفافية وعمق، صبّ الفنان/ الكاتب تفاصيل روايته المصهورة مع أسلوبه الفني.

أسلوب ومنحى فكري قريب جدا من الواقعية السحرية شكلا ومضمونا استكمل فيها، أي في الرواية، ولم يُكمل ما حدث في الجزء الأول من الكتاب المصوّر مع “فريد طويل” الشخصية الرئيسية في مؤلّفه، الذي تعرّفنا عليه في الجزء الأول، وهو يسير ليلا نحو منزله بعد انتهاء دوام عمله ليكتشف أن بيته وعائلته، لا بل مدينته لم تعد إلاّ ظلا لما كانت عليه.

سحرية هذه الرواية تكمن في كون الفنان وضعها في يد كل فريد يعيش “واقعيا” في لبنان، وفي بيروت بشكل خاص يلتفت حوله ليلا وصباحا، ولا يعثر في ما يشاهد إلاّ على أثر المدينة التي كانت. مدينة مرصودة للنجاة، أكثر ممّا هي للحياة، على الأقل حتى يومنا هذا.

Thumbnail
14