باريس مُخاطبة المبدعين: كونوا كما أنتم

فنانون كثر مروا من باريس خلفوا وراءهم إرثا فنيا عظيما البعض بدأ حياته الفنية فيها وآخرون حملوا معهم تجربة حياة لكل منهم أسبابه في اختيارها.
الجمعة 2019/11/01
دافينشي ظل محل نزاع بين روما وباريس

مقولة الإبداع لا يعرف وطنا صحيحة. لكن الإبداع يختار الوطن. هناك مدن تخنق المبدعين، وتخشاهم، بينما تختار مدن أخرى أن تزدهر وتنمو بوجودهم. هكذا كانت فلورنسا، التي أهدت للعالم عصر النهضة. ومن قبلها كانت روما وأثينا ومصر القديمة وبلاد الرافدين، ومن بعدها كانت باريس التي استقطبت كبار المبدعين، بدءا بصاحب الموناليزا ليوناردو دافينشي وانتهاء بالفنان الصيني هوانغ يونغ بينغ.. فتحت الأبواب لهم ليصنعوا مجدها وتصنع هي مجدهم.

العلاقة بين الفن والمدن علاقة وثيقة؛ باستثناء الفنون البدائية والشعبية، لم تظهر حركات ومدارس فنية بعيدا عن المراكز التجارية المزدهرة. حدث ذلك في بلاد الرافدين، وفي مصر القديمة، وعلى السواحل الشرقية للبحر المتوسط، وروما، وبلاد الإغريق.

إسطنبول، في الفترة العثمانية، ولدواع تتعلق بموقف الإسلام من التجسيد، اقتصرت الفنون فيها على العمارة والزخرفة وفن الخط العربي، لتستقطب فلورنسا الرسامين والنحاتين، كانت المدينة حينها مركزا تجاريا، حظي الفنانون فيها برعاية عائلات ثرية.

ومع أفول إيطاليا، وصعود فرنسا، حط الفنانون رحالهم في باريس، التي احتكرت رعاية الفن طوال قرنين، القرن الثامن عشر والتاسع عشر. ومع بدايات القرن العشرين، تعدّدت المراكز الفنية، ورغم ذلك حافظت باريس على ألقها، إلى جانب كولون ولندن ونيويورك.

من الأحق

توزّع الفن، وتوزّع الفنانون، ولكن بقي لباريس سحرها، تثير الكثير من الجدل حول هوية الفنان، ومن الأحق بإرثه، البلد التي ولد فيها وشهدت سنوات عمره الأولى، أم البلد التي انتقل إليها وأنجز جل أعماله فيها ناقلا إليها خبراته؟

السؤال طرح من قبل، ويطرح اليوم بإلحاح. الجدل الذي أثير حول ليوناردو دافينشي، عبقري عصر النهضة، مؤخرا، وتسبب بخلاف بين ايطاليا وفرنسا وصل إلى أعلى مستوى.

عبقرية بيكاسو ما كان لها أن تزدهر إلاّ في مدينة مثل باريس، المدينة التي تفاجئك، كل يوم بجديد، مثلها في ذلك مثل الفنان الإسباني
عبقرية بيكاسو ما كان لها أن تزدهر إلاّ في مدينة مثل باريس، المدينة التي تفاجئك، كل يوم بجديد، مثلها في ذلك مثل الفنان الإسباني

عاش ليوناردو سنواته الأخيرة في فرنسا، لذلك يكنّ له الفرنسيون تقديرا خاصا، والإيطاليون من جانبهم يعتزّون بإرثه وهم غير مستعدين لمشاركة هذا الإرث مع سواهم.

وعندما قرّرت فرنسا الاحتفاء بالمئوية الخامسة لميلاد الفنان، واجهت ممانعة كبيرة من الإيطاليين، وخلقت المناسبة أزمة حادة بين البلدين، ألمحت خلالها الحكومة الشعبوية الإيطالية العام الماضي أنها غير مستعدة لإعارة اللوفر أعمالا للفنان محفوظة على الأراضي الإيطالية. ولم يتوان خلالها الائتلاف الحاكم في إيطاليا وعلى رأسه ماتيو سالفيني، عن توجيه انتقادات لاذعة لباريس.

وجددت نائبة وزير الثقافة حينها، لوتشيا بورغونزوني، المقربة من سالفيني التأكيد على أن ليوناردو دافينتشي “إيطاليا حتى لو أن شقيقا لنا في الجانب الآخر من جبال الألب يريد تصويره على أنه فرنسي”.

ولم تنته الأزمة بين باريس وروما إلاّ مع تغيّر الحكومة الإيطالية وتسلّم، داريو فرانشيسكيني، الذي يقال عنه إنه مولع بالثقافة الفرنسية، وزارة الثقافة، ليعمل مع نظيره الفرنسي لكي يتمكن اللوفر من عرض كل أعمال ليوناردو دافينتشي في باريس.

فنانون كثر مروا من باريس، خلفوا وراءهم إرثا فنيا عظيما، البعض بدأ حياته الفنية فيها، وآخرون حملوا معهم تجربة حياة، لكل منهم أسبابه في اختيارها، ولكن جميعهم اتفقوا على حبها. لسبب هام أنها فتحت ذراعيها للجميع مرحبة.

الفنان الروسي، فاسيلي كاندينسكي، عشقه للفن حدث صدفة، أثناء زيارة له لمعرض الانطباعيين الباريسيين في موسكو، وسحرته لوحة للفنان الانطباعي كلود مونيه. ليهجر الحقوق وهو في الثلاثين من عمره، ويقرّر احتراف الفن. هاجر متّجها نحو ميونيخ عام 1896 لدراسة الفنون التشكيلية، ولينتهي به المطاف في باريس، فارا من المد النازي، محدثا انقلابا في الأوساط الثقافية والفنية.

فنان روسي آخر هو، مارك شاغال، حط الرحال في باريس، ولم يترك طريقا إلاّ وسلكه، أنتج اللوحات الزيتية، والرسوم التوضيحية، والزجاج المعشق، وتصميمات لديكورات المسارح، ورسوم الخزف والنسيج،

مستخدما أجواء شعرية ساحرة لاقت إعجاب العالم، ليقال عنه إنه “الفنان الأفضل تمثيلا للقرن العشرين”.

وتفتخر فرنسا اليوم بالرسوم الجدارية الرائعة التي نفذها شاغال في سقف أوبرا باريس.

محجّ الفنانين

وحدها باريس تتقبل أن يعيش فيها عبقري نزق ومجنون مثل دالي
وحدها باريس تتقبل أن يعيش فيها عبقري نزق ومجنون مثل دالي

فنان آخر جاء باريس من أقصى الغرب الأوروبي، إسباني داندي تحوّل إلى أيقونة باريسية، يسبقه شاربه المعقوف إلى الصالونات الباريسية. إنه سلفادور دالي، السريالي النرجسي الذي لم يتردّد أن يقول عن نفسه إنه أعظم فنان في القرن العشرين.

في يناير1989  توفي دالي تاركا خلفه إرثا ضخما من الأعمال الفنية، إضافة إلى إرث أكبر من الفضائح، أصبحت حسب قوله جزءا من التراث الإنساني. فقط مدينة مثل باريس تستطيع أن تتقبل أن يعيش فيها عبقري نزق ومجنون مثل دالي.

لا يكتمل الحديث عن باريس إلاّ بذكر الغازي الشاقولي لمدينة الأنوار، الإسباني بابلو بيكاسو، الذي جاءها هربا من دكتاتورية الجنرال فرانكو.

ولد بيكاسو في 25 أكتوبر 1881 في مالقة، إسبانيا، وعندما كان طفلا قالت له والدته “إذا أصبحت جنديا ستكون مشهورا، وإذا أصبحت راهبا ستكون البابا”، بدلا من ذلك غادر بيكاسو المدرسة متوجها إلى باريس ليصبح رساما.. وكان بيكاسو أكثر فناني العالم شهرة.

ما كان لمثل تلك العبقرية أن تزدهر إلاّ بمدينة مثل باريس، المدينة التي تفاجئك، كل يوم بجديد، مثلها في ذلك مثل بيكاسو.

نجاح عاصمة الأنوار في استقطاب كبار المبدعين، يكمن في انفتاحها على ثقافات العالم، إنه السر الذي جذبهم إليها

قبل أن يغادر بيكاسو إسبانيا، قطع على نفسه عهدا ألا يعود إليها إلاّ بعد رحيل فرانكو عنها، وتشاء الأقدار أن يموت الفنان في 8 أبريل 1973، قبل رحيل فرانكو الذي توفي في 20 نوفمبر 1975.

أسماء كبيرة لفنانين غيبهم الموت، تجمع الأصول الأوروبية بينهم. ولكن باريس لم تجذب إليها الأوروبيين فقط، آخر من غيّبه الموت، هو الفنان الصيني، هوانغ يونغ بينغ، المعروف بأعماله التوليفية الضخمة. وكان الفنان واحدا من أبرز الفنانين الطليعيين في الصين، مقيما في فرنسا منذ العام 1989.

لم يأت إلى فرنسا لاجئا على عادة فناني الكتلة الشرقية بل جاءها لإقامة معرض عام 1989، لتندلع بالصدفة أحداث ميدان تيانانمن، فاختار البقاء في فرنسا على العودة إلى الصين.

نجاح باريس في استقطاب كبار المبدعين، يكمن في انفتاحها على ثقافات العالم، إنه السرّ الذي جذبهم إليها.. كونوا كما أنتم، لا نريدكم نسخة عمّا نحن عليه، سنحتفل باختلافكم، اصنعوا مجد مدينتنا، ونحن سنصنع مجدكم.

17