انقلاب كامل الدسم

يروى عن حسني الزعيم الذي قاد أول انقلاب عسكري في سوريا ضد شكري القوتلي في عام 1949، أنه أراد أن يختبر نباهة أحد المجندين فطلب منه أن يعدد على مسامعه الرتب العسكرية. طفق المجند يعدد الرتب من الأعلى إلى الأدنى حتى وصل إلى المجند البسيط الذي لا يحمل أي رتبة وسكت. سأله الزعيم الانقلابي “لماذا سكت؟”. رد الجنديّ: لأنه ليس هناك من هو أدنى رتبة من الجندي سيدي.
قال الزعيم: بلى.. هناك من هو أدنى منه، وبكثير، وهو المدني.
ليس هناك من هو أدنى من المدني، بنظر العقلية العسكرية التي تولت الحكم في الكثير من البلدان العربية منذ أواخر أربعينات القرن الماضي.. هذه قناعة راسخة لا تكاد تقبل النقاش لدى هؤلاء الذين يحبون الحكم حبا جما، وخاضوا معارك ضد شعوبهم أكثر من تلك التي خاضوها ضد الخارج بل إن أغلبهم لم يخض حربا إلا ضد شعبه.
استطاع الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد أن يضع حدا لسلسلة الانقلابات التي حطمت الرقم القياسي، وذلك عبر انقلابه سنة 1970
يستحضر المرء هذه النظرة القاتمة للمؤسسة العسكرية في غالبية البلدان العربية وهو يراقب بشيء من اليأس والقنوط، الانقلاب العسكري الذي حصل في السودان صباح الاثنين الماضي، وبدأ باعتقال الجيش لرئيس الوزراء عبدالله حمدوك ومعظم أعضاء حكومته والعديد من المسؤولين والعاملين بقطاع الإعلام.
استلام الجيش للسلطة في السودان كان متوقعا بل ومنتظرا في بلد تعدّ فيه الانقلابات العسكرية جزءا من “تراثه السياسي”، وذلك على الرغم مما قدمته الوثيقة الدستورية من تطمينات على إثر الثورة التي عصفت بنظام عمر البشير، وهلل لها العالم.
منذ استقلالها عن الاحتلال البريطاني عام 1956، شهدت جمهورية السودان العديد من الانقلابات العسكرية، لعل أبرزها تلك التي قام بها الرئيس السابق عمر البشير في 1989 على حكومة الأحزاب الديمقراطية برئاسة الصادق المهدي، والتي مهَّدت له حكم البلاد طيلة 30 عاما.
هل سيعود السودان لنقطة الصفر، وهل قدر هذا البلد الطيب الذي تنهكه الأوضاع المعيشية الصعبة والنزاعات الداخلية أن ينصاع لأمزجة العسكريين الذين يتداولون السلطة فيه بشكل عمودي، وفي صورة كاريكاتيرية تثير السخرية رغم قتامة المشهد.

ممارسة العمل السياسي في العالم العربي تأتي مع الرقص على ظهور الدبابات
ما سر هذا العشق العسكري للسلطة ورغبته في إدارة دواليب الحكم، في حين كان الأجدر به أن يحمي حدود بلاده، ويشرف على مؤسسته خلف أسوار الثكنات وليس من مكاتب القصور الرئاسية؟
الأمر لا يتعلق بالسودان نفسه بل ببلاد أفريقية وعربية كثيرة، بالإضافة إلى مثيلاتها في أميركا الجنوبية أي في البلدان التي ترزح تحت الفقر والخلافات القبلية والطائفية والإثنية.
هنا نكون قد مسكنا طرف الخيط، إذ أن ما حصل من انقلابات في هذه البلدان، إنما هو انقلاب فئة أو طائفة أو قبيلة ضد أخرى، علاوة على خلط كل هذه الحساسيات الإثنية بالأحزاب والأيديولوجيات كما حصل في سوريا والعراق وليبيا، ستينات وسبعينات القرن الماضي.
وما زال الأمر مستمرا والحبل على الجرار، يضاف إليه تدخل خارجي كما هو الحال في بلدان مثل اليمن، لبنان حيث تعربد فيه الأطماع الإيرانية بصيغ انقلابية لا تختلف إلا في لون البزة العسكرية.
ولا يختلف اثنان في أن لكل انقلاب عسكري حاضنة سياسية، فالجيش السوداني في رأي الكثير من المحللين، لم يكن في يوم من الأيام حاكما فعليا للبلاد، بقدر ما كان هناك قادة عسكريون يُدفعون نحو شغل منصب الرئاسة خدمة لأجندة تيار من التيارات السياسية، والدينية، وحتى الطرق الصوفية.
الجنرال إبراهيم عبود مثلا، والذي كان أول من انقلب عام 1958 هو ومجموعة من الضباط على حكومة ائتلافية بين حزب الأمة والاتحادي الديمقراطي، كان ممثلا للطائفة الختمية، وهي إحدى الطرق الصوفية الأكثر انتشارا في السودان. والعقيد جعفر النميري كان في بدايته مجرد ممثل للتيار اليساري الشيوعي القومي الذي هيمن في سبعينات وثمانينات القرن الماضي، أما عمر البشير، فهو بطبيعة الحال خادم للتيار الإخواني الذي برز كأقوى تيار سياسي في السودان منذ نهاية الثمانينات.
السودان لا يختلف من حيث ظروفه الاقتصادية والسياسية عن أي بلد عربي آخر يسعى للاستقرار ولا يعيشه، يصبو إلى الديمقراطية ولا يدركها، لكن مؤسسته العسكرية لها من التاريخ وقوة التكوين والحضور على المسرح السياسي ما يؤهلها أكثر من غيرها لتصدر المشهد الإعلامي عبر تلاوة بياناتها بعد احتلال مباني الإذاعة والتلفزيون أكثر من سبع مرات في محاولات انقلابية “ناجحة” وأخرى “فاشلة”.. وأجمل الانقلابات هي ما فشل منها بطبيعة الحال.
يأتي السودان الثاني عربيا بعد سوريا من حيث عدد الانقلابات، على الرغم أن بعضهم يرى أن أول انقلاب في المنطقة جرى في العراق في العشرين من أكتوبر 1936 ونفذ من قبل الفريق بكر صدقي، رئيس أركان الجيش العراقي وقتها، وكان في عهد الملك غازي بن فيصل.
استطاع الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد أن يضع حدا لسلسلة الانقلابات التي حطمت الرقم القياسي، وذلك عبر انقلابه سنة 1970، والذي آل فيه الحكم للطائفة العلوية تحت مسمى الحركة التصحيحية، في مزج بين أيديولوجيا البعث، والخلفية الطائفية للضابط العلوي المحنك سياسيا.
هل سيعود السودان لنقطة الصفر، وهل قدر هذا البلد الطيب الذي تنهكه الأوضاع المعيشية الصعبة والنزاعات الداخلية أن ينصاع لأمزجة العسكريين الذين يتداولون السلطة فيه بشكل عمودي
هذه البلية المتمثلة في تدخل الجيش بالسياسة، لم تنج منها إلا أنظمة جمهورية قليلة في العالم العربي مثل تونس، الجارة الشرقية للجزائر التي يعربد فيها جنرالات الفساد منذ الحركة الانقلابية التي يصفها البعض بـ”المحمودة” والتي قادها هواري بومدين ضد أحمد بن بلة عام 1965.
فكرة ارتباط الانقلابات بقوى خارجية عظمى أمر وارد لكنه ليس صحيحا دائما، فـ”دود الخل منه وفيه” كما يقول المثل العامي ثم إن ممارسة العمل السياسي في العالم العربي تأتي مع الرقص على ظهور الدبابات.