الهوسا قبائل أفريقية مسلمة تبدع في تأليف الحكايات الشعبية

شغلت الحكاية الشعبية اهتمام الباحثين وحفزت فكر العلماء وأثارت خيال الأدباء، وخاصة في مجال المأثورات الشعبية والفلكلور بصفة عامة، لما تحمله من خصائص فنية ومتعة ثقافية تفردت بها عن غيرها من ألوان الأدب الشعبي، ولعل أفريقيا من أكثر قارات العالم تداولا للحكايات الشعبية لكنها لم تحظ بالقدر الكافي من التدوين.
تشكل دراسة “الحكايات الشعبية عند الهوسا في نيجيريا” للباحثة نادية عبدالفتاح الباجوري إحدى أهم الدراسات في الأنثروبولوجيا الثقافية التي تدرس بالوصف والتحليل موضوع الثقافة الإنسانية للمجتمعات التقليدية والمجتمعات الريفية “أي ثقافة الشعوب”، فتبين معناها وخصائصها وعناصرها، وكيف تنتشر وتؤثر وتتأثر ودورها في بناء شخصية الإنسان.
وفي كتابها رصدت الباحثة وحللت خلال فصوله الستة العشرات من الحكايات الشعبية سواء منها ما ارتبط بالسياسة أو الدين أو الحياة الاجتماعية والاقتصادية.

الحكاية الشعبية تعرف أفراد المجتمع بمنظومات القيم الأخلاقية والدينية والسياسية والاقتصادية والأسرية وتؤثر عاطفيا في مستمعيها
التأثر بالحضارة الإسلامية
يزخر تراث الهوسا، وفقا للباجوري، بالعديد من الحكايات الشعبية التي تعبر بأدلة قاطعة عن المكونات الاجتماعية للجماعات المختلفة من شعب الهوسا، كما أنها تقدم وصفا للتركيبة العرقية والثقافية والطبقات الاجتماعية التي تتناولها.
وعلى الرغم من كل التطورات التكنولوجية في أفريقيا وفي نيجيريا خاصة، فإن دور الحكايات الشعبية الشفاهية مازال هو الفعال في مجتمع الهوسا، وشعب الهوسا مولع بالحكايات الشعبية والأمثال وقد لا تخلو بعض هذه الحكايات والأمثال من ذكر حيوان أو حرفة أو مهنة، ومما يدعو للدهشة أن هذه الموضوعات تمتد لتشمل الآلهة والأسلاف والسحرة والأشباح والحيوانات التي تحتفي بها الشعوب على مستوى العالم لما لها من قدرات خارقة مثل: الجنيات وغيرها من الكائنات الخرافية. إن للهوسا تراثا غنيا من الحكايات فهم يعرفون عالم القرى والمدن، ويعرفون العالم السلفي والعلوي، ولديهم حكايات عن الماضي والحاضر، ومن المدهش أن حكايات الهوسا لم يفتها موضوع إلا وتناولته.
وتوضح الباحثة أن قبيلة الهوسا تسكن شمال نيجيريا وهم مسلمون وينتشرون في سوكوتو، وكانو، وزاريا، وباوتشي، وكاتسينا، وبرنو، وزمفرا، وجومبي وغير ذلك، وتعد هذه القبيلة من أكبر قبائل نيجيريا عددا ومكانة، وقد دخلها الإسلام منذ قرون بعيدة فتمسكوا به وبتعاليمه فهم شعب متدين جدا، وقد انصهروا مع الفولاني عندما دخلوا بلادهم وأصبحوا خليطا من الهوسا/ فولاني.
ويعتبر أبناء قبيلة الهوسا من مهرة الزراع ورعاة الماشية، كما أنهم تجار مغامرون وأهل فن حاذقون فهم يجيدون صناعات يدوية تقليدية كثيرة مثل: صناعة الجلود، والحصر، ولغتهم تنتشر في أماكن كثيرة في غرب أفريقيا، ولقد ارتبطت لغة الهوسا باللغة العربية، لأنها اقترضت كلمات من العربية مثل حكمة “Hikima”، رحيم “Rahimi”، ربنا “Rabbama”، واجب “Wajibi” فقبيلة الهوسا تأثرت بالدين الإسلامي وبتعاليمه كما تأثرت بلغته.
كما أن مجتمع الهوسا مجتمع أبوي، الأب فيه هو صاحب السلطة، والكلمة الأولى والأخيرة له، ويتكشف ذلك عبر العادات والتقاليد والمعتقدات التي يعيشها أفراد المجتمع في جميع مراحل حياتهم، وأيضا الحكاية الشعبية لها أهميتها الكبيرة في حياة شعب الهوسا الذي يعتبرها من أهم أنواع الأدب الشعبي لأنها تجسد ماضيه ومستقبله.
حكايات الهوسا كباقي حكايات المجتمعات الأفريقية المتأثرة بالثقافة العربية الإسلامية، وهذا ظاهر بوضوح في كثير من تفاصيلها
وتؤكد الباجوري أن مصادر الحكاية الشعبية الهوساوية تتعدد وتختلف ويصعب تحديدها تحديدا دقيقا إلا أنه يمكن إيراد بعضها: البيئة وما تحتوي، والوضع الاقتصادي وعلاقة الجوار مع الشعوب والقبائل المجاورة، والغارات القبلية والتأثير والتأثر على المستوى الداخلي والخارجي، والاقتباس، والمعتقد الديني. وبيئة الهوسا مليئة بمصادر الحكايات الشعبية الجميلة.
وتتابع أن الرمزية في الحكاية الشعبية تكسبها خاصية الخروج عن المألوف، وهي مجال تصويري إبداعي، وقد اتضح أن معظم الحكايات الشعبية الهوساوية تتميز بالرمزية لأن راوي الحكاية الشعبية يلجأ للرمزية عندما لا يستطيع أن يقول آراءه وأفكاره بحرية أمام حاكم ظالم أو أمام المستعمر الغاشم، ولذا فإن الرمزية هي الوسيلة الوحيدة التي تجعل الراوي يعبر من خلالها عن آرائه وآراء مجتمعه المظلوم.
وترى الباجوري أن حكايات الهوسا كباقي حكايات المجتمعات الأفريقية المتأثرة بالثقافة العربية الإسلامية، وهذا ظاهر بوضوح في كثير من الحكايات الشعبية مثل حكاية “النبي والشيطان” وحكاية “الزرع الذي يحبه الله سوف ينبت ولو دون ماء” التي تشبه حكاية “سندريلا” العربية الشهيرة”. ويتضح أيضا أن حكايات الهوسا متأثرة بحكايات كليلة ودمنة الهندية، والتي تتميز دائما بوجود الحيوانات فيها كشخصيات أساسية.
وظائف الحكاية الشعبية
نماذج من الحكايات
حكاية: الثعلب ملك الحيلة
ذات يوم كان غراب ما يتجول باحثا عما سيأكله، فإذا به قد رأى قطعة لحم صغيرة ملقاة على الأرض بالقرب من أحد المنازل، فهبط والتقطها، وطار بها ثم هبط فوق غصن إحدى الأشجار. وإنه مما يدعو للعجب، أو ما يثير الدهشة أن كل ما فعله الغراب كان الثعلب يراقبه، فطار عقله بسبب قطعة اللحم الصغيرة، وعندئذ أخذ يفكر تفكيرا عميقا حتى يأخذها منه، فذهب الثعلب إلى جذع الشجرة وأخذ يناشد الغراب، قائلا: لقد سمعتك في يوم من الأيام تنشد أغنية وصوتك أيضا رائع جدا، فهل تعيد عليّ إنشاد أغنيتك هذه لأسمعها؟ فعندما سمع الغراب أنه يمتدح بكلام معسول كهذا، نسي ما في فمه، وثغر فيه لكي ينشد الأغنية هكذا.. فعندئذ وقعت قطعة اللحم، فأخذها الثعلب، واستدار إلى الخلف قائلا: الحمد لله.. وعندئذ أخذها وانصرف.
حكاية: جزاء من الله
هناك ثري له كثير من المال مشهور بشدة الغضب والتكبر، وفي يوم من الأيام غضب هذا الغني وشتم أحد عماله ورماه بحجر، فانحنى العامل وأخذ الحجر ثم قال “سوف يأتي يوم انتقم فيه من عدوي، لأن الله هو الذي يغني الفقير ويفقر الغني”. وبعد مرور زمن طويل بدأ هذا الغني السفيه ينفق أمواله في تبذير شديد، وفي انتهاك أعراض الناس، حتى افتقر وصار في حال لا يحسد عليه وعبرة للمعتبرين. وفي أحد الأيام رأى هذا العامل الفقير الغني الذي أهانه يوما وأخذ الحجر الذي رماه به لينتقم منه، ولكنه تذكر أن الله لا يحب الانتقام، ومن هنا ترك أمره لله، لأنه هو المجازي وأعطاه شيئا يحسن به حاله قائلا “أحسن إلى الناس يحسن الله إليك وأحسن إلى أعدائك يحسن الله إليك”.
تبين الباجوري أن الحكاية الشعبية في مجتمع الهوسا لها عدة وظائف مثل: الوظيفة الاقتصادية والتي تهتم بالعلاقات الاجتماعية ذات الطابع الاقتصادي، والتي تكمن وراء الأنشطة والممارسات الاقتصادية مثل الوسائل والآلات والأدوات المستخدمة في الإنتاج وغير ذلك من علاقات وقيم ومعايير تتحكم في تلك الأنشطة والممارسات.
وأهم الوظائف التي تدعو إليها الحكايات الشعبية الاقتصادية تتمثل في الحث على اتخاذ أرض جديدة لجعلها بيئة جديدة صالحة لكافة الأنشطة في الحياة اليومية، وضرورة التخطيط في العمل الجماعي الذي يعتمد على تقسيم العمل وعدم الكسل ومكافحة البطالة، والتأكيد على أن العمل الجماعي يساعد على استغلال الموارد الاقتصادية بطريقة أفضل، وضرورة وجود ترابط أسري بين أفراد الأسرة حتى يحصلوا على نتائج حسنة في عملهم. كما توضح الوظيفة التي تؤديها الحكاية أن الرزق يحتاج للكد والمثابرة، كما تشير إلى بعض السلوكيات الاقتصادية الحسنة في حالات البيع والشراء، وتنفر من السلوكيات السيئة كالغش والسمسرة.
وهناك الوظيفة القرابية للحكايات الشعبية الهوساوية وهي الوظيفة التي تبين من خلالها علاقة الأب والأم ببعضهما البعض وعلاقتهما بالأبناء، ومعنى ذلك أنها الوظيفة التي تتبين من خلالها العلاقات القرابية عموما والدور الذي تؤديه الأسرة في تعليم وتثقيف وتسلية الأبناء ودعوتهم إلى الاهتمام بالترابط الاجتماعي.
وتحث الحكايات حول العائلة على ضرورة وجود علاقة حميمة وتماسك أسري بين أفراد الأسرة، والتأكيد على أن الاحترام والإحسان والعشرة الطيبة من أهم أسباب حصول المرأة على ما تريده من زوجها. وتشير الحكايات إلى تعدد الزوجات كظاهرة منتشرة في مجتمع الهوسا وعلى وجود الأسرة الممتدة في منزل واحد كأمر طبيعي، وتحث على ضرورة اتخاذ الزوجة الصالحة والتأكيد على أن الإحسان والمعاملة الحسنة يجب أن يكونا لكل مخلوقات الله تعالى، والتأكيد على قيمة الصبر لأنها من أهم القيم الإنسانية.
وترصد الباجوري للوظيفة السياسية للحكايات الشعبية الهوساوية حيث تشير إلى أن أهم أدوارها يتمثل في ضرورة اتخاذ الحذر والحيطة من أعداء القبائل والدول الأخرى، وذلك بذكاء ودهاء، وتحض الحكاية على بعض الصفات التي يجب أن تتوفر في أي ملك أو حاكم والتي من أهمها حسن السياسة، والقدرة على استغلال المواقف لصالح الرعية، وتحمل أعباء الحكم وأن يكون الحاكم ذا خبرة واسعة بأمور الحكم وذا حنكة سياسية وأن يدير شؤون البلاد والعباد وألا يغفل عن مصالحهم.
كما تؤكد الحكاية على ضرورة اختيار حاشية صالحة تعيد الحاكم إلى صوابه إذا حاد عنه، وأهم ما تتصف به هذه الحاشية الصالحة هو عدم استغلال السلطة لصالحها، وأداء عملها بكل إخلاص. وتشير الحكاية إلى كيفية استغلال المستعمر الأوروبي للنزاعات القبلية في أفريقيا لصالحه، إذ أن الحروب كانت تثار آنذاك من أجل ملكية الأرض، والمستعمر الأوروبي بدوره يحرص على حدوث مثل هذه الحروب حتى تكون السلطة الأخيرة أو الملكية الأكبر للأراضي له. وتحث على ضرورة مقاومة الاستعمار الغاشم بالحكمة والذكاء وإظهار الاستسلام والضعف حتى تحين الفرصة للانقضاض والنصر في النهاية.
وفي رصدها للوظيفة الدينية للحكايات الهوساوية تؤكد أن تأثير الثقافة العربية الإسلامية على مجتمع الهوسا كان ولا يزال تأثيرا كبيرا، فمجتمع الهوسا يتمتع بحياة دينية تتخلل كل نظمه الاجتماعية نظرا إلى تماسكه الديني، وقد تبين من الحكايات التي استعانت بها الباحثة أن القيم والتعاليم الإسلامية والعربية منتشرة بشكل كبير وواضح نظرا إلى تمسك قبيلة الهوسا بالدين الإسلامي.
ومن أهم الوظائف التي تحث عليها الحكايات الشعبية الدينية يتمثل في أن الخلق والسلوك الذي يدعو له الدين الإسلامي قائم على التزام المؤمن باتباع تعاليم دينه وإيمانه بنبيه والبعد عن الشيطان الرجيم، والإيمان بوحدانية الله، والقناعة والرضا بما قسمه الله، واللجوء إليه في كل الأمور، والتقرب لله بالصلوات والدعوات، والحكم بين الناس بالعدل، ونبذ الظلم وعدم قبول الرشوة.
وتخلص الباجوري إلى أن الحكاية الشعبية تعرف أفراد المجتمع منظومات القيم الأخلاقية والدينية والسياسية والاقتصادية والأسرية وذلك لكونها الوسيلة التي تؤثر خلال الطبيعة العاطفية على شخصية مستمعيها. وأن غالبية الحكايات الشعبية التي تقدم للأفراد عن الهوسا تدور موضوعاتها حول قيم السياق القبلي أي عن عادات وتقاليد الحياة القبلية، وهي، الحكايات، تخاطب قلوب مستمعيها وتشبع رغباتهم وخيالهم وتصور التجارب المألوفة والخبرات الإنسانية، وتساعد على التذوق وتمد مستمعيها بكثير من المعلومات الضرورية لحل كثير من المشكلات، وتنمي الشعور بالذات وبالآخرين، وتدفع العقول إلى حب الاستطلاع والتأمل والتفكير وتثير روح النقد، ومما لا شك فيه أن الحكاية الشعبية تخلق لدى مستمعيها ارتباطا بتاريخ الوطن وأحداثه وقيمه وعاداته وتقاليده.