النهوض الشاق لنموذج صناعة النسيج التونسية

هل توقف الناس عن ارتداء الملابس؟ طبعًا لا. يتحدث المسؤولون التونسيون منذ سنوات عن تدهور قطاع النسيج، ويتعهدون في كل مرة يطلون فيها علينا عبر وسائل الإعلام بخطط للإصلاح، لكن القدرة على المنافسة دوليًا في تراجع مستمر مع تواصل خروج شركات عالمية من السوق، والتي تختار التوجه إلى مصر والمغرب وغيرها من الدول، مما يثير مخاوف من اندثار هذه الصناعة.
لقد شكلت الصناعة منذ بدء بناء الدولة عقب الاستقلال أحد أكبر قطاعات التشغيل، وكانت مشاركتها في التوازن الاقتصادي والاجتماعي للبلاد مهمة للغاية. مع ذلك، مثل القطاعات الأخرى التي تعاني من ضغوط الأزمات المحلية والعالمية، بدأ يُظهر علامات على نفاد قوته، مما يتطلب إجراءات فورية لتطويره بشكل مُحكم حتى يتمكن من الحفاظ على مكانته ليس فقط لأنه مدر للعملة الصعبة.
منذ نشأته في بداية السبعينات كان القطاع من الصناعات التي تشحذ قوة الاقتصاد التونسي إلى جانب قطاعات إستراتيجية كالزراعة والسياحة، حيث يقدر متوسط قيمة صادراته السنوية قرابة 2.5 مليار دولار، وهي أعلى من مصر التي تبلغ 1.1 مليار دولار وأقل من المغرب بواقع 4.4 مليار دولار. وتشكل شركاته ثلث القطاع الصناعي للبلاد. ومن بين أكثر من 1822 شركة، هناك 1524 شركة تنتج بالكامل للتصدير، وهي تستفيد بشكل خاص من موقعها القريب من أوروبا مع امتثالها للمعايير الدولية، وقوة عمالتها التنافسية، التي تسمح لها بتوصيل الطلبات بسرعة.
◄ الاستجابة السريعة للتحديات تبدو حاسمة للحفاظ على صناعة النسيج في تونس وضمان بقائها كمصدر اقتصادي مهم
بفعل تتالي الأزمات منذ 2011 دخل القطاع في متاهة نتيجة اضطراب الأوضاع وسوء إدارة الحكومات للمشاكل التي أثرت على الأعمال بشكل عام، وتفاقمت المشكلة مع تفشي وباء كورونا وما تلاه من إكراهات الحرب في أوكرانيا، التي انعكست بشدة عليه في شكل تضخم الأسعار، وتكاليف الإنتاج والتمويل التي أرهقت المنتجين، مما أفرز تسريحًا للعمالة لمواجهة ضغوط الإنفاق.
حتى نفهم أكثر واقع الأعمال في البلاد، علينا النظر في مؤشرات منتدى دافوس الاقتصادي بشأن التنافسية، فتونس بعدما كانت تحتل المرتبة 32 عالميًا في 2010 تقهقر تصنيفها ليصل في العام الذي سبق تفشي كورونا إلى المركز 87، وهو لا يزال كذلك حتى الآن. قس على ذلك العديد من المؤشرات الأخرى، مثل الابتكار والبنية التحتية وغيرها. اللافت أن صندوق النقد العربي صنف تونس خلال 2023 في المركز السادس على مستوى الانفتاح وحرية الأعمال التجارية بين 26 بلدًا في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
لكي نكون منصفين دون تحامل، تكمن نقاط قوة قطاع النسيج بشكل خاص في إنتاج وبيع التكاليف الدقيقة. فعلى سبيل المثال، بالنسبة إلى النماذج الأولية، يستغرق الأمر وقتًا قصيرًا لا يتعدى نصف أسبوع، وهي المدة نفسها لتصنيع المنتج ودورة الإنتاج. ويتم بعد ذلك تسليم المنتجات في فترة لا تزيد عن ثلاثة أيام. ويتيح الإنتاج السريع والاستجابة القوية الحفاظ على القدرة التنافسية والربحية بتكاليف تنافسية.
الجودة أيضًا أحد المعايير المهمة للقطاع، ويتم ضمان ذلك بفضل الجامعات ومعاهد التدريب المهني التي أنشأتها الدولة. ونذكر، من بين أمور أخرى، مراكز التدريب القطاعي لمشرفي وتقنيي النسيج، والمعهد العالي للدراسات التكنولوجية بمدينة قصر هلال، والمدرسة الوطنية للمهندسين بولاية (محافظة) المنستير، ومركز تدريب العمال المتخصصين في النسيج وغيرها.
كذلك، تكاليف الأجور المنخفضة مقارنة بتلك الموجودة في أسواق أخرى حتى في الدول المنافسة بشكل مباشر مع تونس، بالإضافة إلى التشريعات المواتية للصناعات الأجنبية كاتفاقية التجارة الحرة مع الاتحاد الأوروبي وتركيا وغيرهما، والإعفاء من الضرائب على الدخل والأعمال والأرباح لمدة 10 سنوات هي أدوات بيد السلطات عليها الاستفادة منها لإقناع المستثمرين الأجانب بالبقاء مع تحفيز شركات أخرى على النشاط في السوق.
◄ بفعل تتالي الأزمات منذ 2011 دخل القطاع في متاهة نتيجة اضطراب الأوضاع وسوء إدارة الحكومات للمشاكل التي أثرت على الأعمال بشكل عام
فتدهور قطاع النسيج يُظهر الحاجة الملحة لتدخلات جادة من السلطات التونسية. فتراجع القدرة التنافسية، وفقدان الشركات العالمية لمواقعها بالبلاد، يعدان مؤشرين على ضرورة تنفيذ إستراتيجيات فعالة لإصلاح هذه الصناعة. إحدى الخطوات الأساسية التي يجب أن تُتخذ هي تعزيز الابتكار والتكنولوجيا في الإنتاج، مما سيساهم في تحسين جودة المنتجات وتخفيض التكاليف. كما ينبغي التركيز على تطوير التعليم والتدريب المهني لإيجاد قوى عاملة مدربة يمكنها تلبية احتياجات السوق.
أحدث المبادرات التي أطلقتها الحكومة الحالية تتعلق بالبرنامج الشامل للنسيج والملابس، والذي يدعم الشركات الناشئة ورواد الأعمال الذين يقدمون حلولًا تكنولوجية خضراء. هذا البرنامج الذي تموله وزارة الاقتصاد السويسرية والوكالة السويدية للتنمية والتعاون الدولي، بالشراكة مع مركز التجارة الدولية والمنظمة العالمية للتجارة، في الواقع هو واحد من عشرات المبادرات التي تطلقها تونس منذ أعوام، لكن في النتيجة تبدو عمليات كهذه مجرد مسكنات لإنعاش القطاع لأن عملية التطوير والتحفيز تتطلب نظرة أوسع وأشمل.
علاوة على ذلك، يتطلب الأمر تحسين المناخ الاستثماري من خلال إزالة البيروقراطية وتقديم حوافز للشركات المحلية والأجنبية. وأيضًا يعد تعزيز التعاون مع الشركاء الدوليين واستغلال الأسواق الجديدة قد يفتح آفاقًا جديدة. وتبدو الاستجابة السريعة لهذه التحديات حاسمة للحفاظ على صناعة النسيج في تونس وضمان بقائها كمصدر اقتصادي مهم. لذا، من الضروري أن تتطلع السلطات إلى هذه المشكلة بعين الاعتبار والعمل على وضع خطط إستراتيجية طويلة الأمد.
اليوم يبدو نموذج هذه الصناعة التي كانت في يوم ما قوية وجذابة أمام مرحلة نهوض شاق، فمتى تلتفت السلطات جديًا لحل مشاكله؟