النضال التونسي الملح لتنظيم سياسة الإنتاج

تونس تدرك أن بناء إستراتيجية طويلة الأجل لتنظيم منظومة الإنتاج سيكون أكثر نفعا من التحركات اللحظية، خاصة إذا ما تعلق الأمر باعتماد سياسة أكثر عقلانية.
الأربعاء 2024/12/25
تصريف المحصول الخطوة الأصعب

بصرف النظر عن تأثير الجفاف وعدم التوفيق في تحقيق بعض الأهداف، بدت الانطلاقة الجديدة للموسم الزراعي في تونس لهذا العام واعدة، وقد تمثل انعكاسا لمقاربة متوازنة لإدارة القطاع في سياق المحاصيل الجديدة، فالسوق بعد أن ظهرت عليها بوادر حركة تجارة الزيتون، تستعد لدمج الحمضيات أيضا، ومعه تظهر الدولة لكي تقوم بدور حاسم في هذه العملية لتجنب التقلبات الحادة، ولكن يتعين عليها أن تتجنب التدخل المفرط لبلوغ هدفين أساسين، هما: إطعام التونسيين وتحصيل الموارد المالية.

تدرك تونس أن بناء إستراتيجية طويلة الأجل لتنظيم منظومة الإنتاج سيكون أكثر نفعا من التحركات اللحظية، خاصة إذا ما تعلق الأمر باعتماد سياسة أكثر عقلانية، والتي يمكن أن تساعد في ضمان استدامة الاقتصاد الزراعي وتنمية تجارته. الدولة من أهم اللاعبين في تنظيم قطاعي الفلاحة والتجارة، حيث تسعى إلى تحقيق توازن بين التنمية واحتياجات الفلاحين والمستهلكين على حد سواء. التدخل في هذين القطاعين يشمل سياسات وإجراءات تهدف إلى ضمان استقرار الأسعار والإنتاجية وحماية الموارد الطبيعية والأمن الغذائي.

منذ التسعينات، وكما هو الحال في العديد من البلدان النامية، بدا النظام التجاري في تونس يتغير بسرعة. وبينما تترسخ أشكال جديدة من التنظيم والتموقع مع ظهور ممارسات جديدة في السوق، ظل التخطيط المرحلي وراء هذه التطورات ملازما لصناع القرار، لكن لم يظهر أول قانون تحت هذا الإطار إلا في عام 1999، حيث كانت الدولة تفكر في كيفية الاستفادة من شراكاتها الخارجية، وفي نفس الوقت تعظيم الإنتاجية، بما يلبي غاية الاكتفاء الذاتي.

استلهاما للتشريع الفرنسي، تعلقت التدابير التي سنها المسؤولون منذ ذلك التاريخ برصد التطورات، كما يتضح ذلك من خلال المراسيم والإلغاءات المتعددة لها، وهي سياسة فرضتها متطلبات تنمية الزراعة وتنظيم تجارة منتجاتها. ونظرا لعدم قدرتها على معارضة التطور الحتمي للزيادة في التوزيع الشامل وفقا للسياسة الليبرالية ومعاهدات التجارة الحرة، كانت الإجراءات التي اتخذت تهدف أساسا إلى دعم تطور النظام التجاري ودمج التجارة المحلية في دوائر التوزيع واسعة النطاق، وبالنظر إلى بعدها الاقتصادي كنشاط توزيع، لم تتم معالجة التأثيرات المكانية لهذا الوضع وتأثيراته إلا في وقت متأخر.

◙ الدولة لا ينبغي لها أن تتدخل بطريقة مستهدفة ومدروسة إلا عند الضرورة لتجنب الاختلالات الكبرى في السوق، وسياسة الانسحاب بشكل مفرط قد تؤدي إلى عدم الاستقرار أو الافتقار إلى التنظيم

لترجمة هذه السياسة، تم إنشاء العديد من الدواوين ومجمعات التخزين، كما هو الحال بالنسبة لديوان التجارة، الذي يحتكر واردات المنتجات الاستهلاكية الأساسية مثل الشاي والسكر والقهوة، وديوان الحبوب، الذي ينظم واردات منتجات القمح والدقيق وفول الصويا والذرة، وديوان الزيت الذي يهتم باستيراد الزيوت النباتية وتصدير زيت الزيتون والمجمع المهني للغلال (الفواكه) وغيرها. في الواقع أثرت سياسة التأميم المقنعة هذه على ديناميكية النشاطين الزراعي والتجاري بشكل طفت معالمه على السطح أثناء الوباء والحرب الروسية – الأوكرانية.

لقد تبين أن السياسات المتبعة، ورغم حسن نية المسؤولين في جعلها أكثر جدوى من الناحية الغذائية والتجارية، بدت غير فعالة ولا تبدو عادلة، ومن المفارقات أنها تغذي زيادة البطالة والفوارق الاجتماعية، إذ من بين الأمور التي لطالما كانت تتسبب في امتعاض التونسيين هو كيف لبلدهم أن يستمر في بناء التبعية الغذائية للخارج على حساب تعظيم الإنتاجية المحلية وتنظيم السوق أكثر حتى لو كانت هناك قواعد جديدة له بالمفهوم الشامل أو بسبب الانفتاح التجاري الذي فرضته العولمة، إلى درجة أن ما يحدث يمكن أن نسقط عليه مقولة الفيلسوف الفرنسي إدغار مورغان ومفادها “من فرط تضحيتنا بالأمور الضرورية لتلبية الأمور المستعجلة انتهى بنا الوضع إلى تغييب حقيقة الضرورة الملحة”.

لنفهم معالم تلك الصورة يكفي النظر إلى ما تسبب فيه النظام الحالي لتدخل الدولة من قمع للزراعة، وتحويل الإنتاج، الذي تتمتع تونس بميزة نسبية طبيعية من خلاله مقارنة بمنتجات أخرى، إلى تحسين الاكتفاء الذاتي أحيانا في ما يتعلق بالمواد الغذائية الأساسية عن طريق “تضخيم” نمو المنتجات، ولكنها أدت في الوقت ذاته إلى تشوهات وإعادة توزيع غير عادلة للثروة وجعل الإنتاجية الكلية دون المستوى الأمثل ومنع القطاع من تحقيق إمكاناته الكاملة، وأثر ذلك العرض والطلب في السوق بغض النظر عما إن كان هناك محتكرون أو مضاربون.

الفكرة الأساسية هنا هي أن الدولة لا ينبغي لها أن تتدخل بطريقة مستهدفة ومدروسة، إلا عند الضرورة لتجنب الاختلالات الكبرى في السوق، مثل التقلبات المفرطة في العرض أو الأسعار. ومثل هذا الخلل في التوازن من الممكن أن يفرز حالة من القلق بين المستهلكين، وهو ما من شأنه أن يضر بالاستقرار الاقتصادي. لكن في الوقت نفسه، ليس من باب الحكمة أن تسحب الدولة يدها بالكامل من السوق.

سياسة الانسحاب بشكل مفرط يمكن أن تؤدي إلى عدم الاستقرار أو الافتقار إلى التنظيم، لذا ينبغي دوما أن يكون الهدف هو الحفاظ على المراقبة لتحديد الاحتياجات مع السماح لآليات العرض والطلب بالعمل بشكل طبيعي. ويجب على الدولة كذلك أن تعتمد سياسة حوكمة إدارية تسمح لها، مع الحفاظ على حرية السوق، بالتكيف والاستقرار بطريقة مستدامة. وهذا من شأنه أن يضمن قدرة المنتجين على تلبية الطلب على النحو الأمثل، مع الحفاظ على ثقة المستهلك والتوازن الاقتصادي على المدى الطويل.

11